-

كتابنا

تاريخ النشر - 09-09-2024 10:11 AM     عدد المشاهدات 1    | عدد التعليقات 0

المختار أبو طامس

الهاشمية نيوز - قصة: صبحي فحماوي
قبل عدة سنوات دعاني صديقي المعلم نايف لمشاركته في حضور عشاء دعاه إليه «أبو طامس» مختار قريتنا الجديد في الزعرورة.. كان المعلم نايف زميلي في التدريس في المدرسة الثانوية، ولكنني غبت عنه بانتقالي للعمل في بنك القرية، الذي يعطي راتبا أكثر من التعليم..
وفي الحقيقة أن المختار «أبو طامس» كما فهمت لاحقاً لم يكن هو المختار الأصلي، إذ أن أخاه الكبير المختار «عنقود الشايب» هو المختار المعتمد، ولكنه سافر لزيارة ابنه في كندا، ولم يعد حتى ساعة إعداد هذا العشاء، فاستعار «أبو طامس» الختم، ليحل محل أخيه في الملمات، والقيام بخدمة حاجات الناس، سواء بختم مختار، أو بصفته مُعرفاً، أو محضراً لمتهم أمنياً يجلبه إلى مخفر الشرطة، أو بصفته كفيلاً يُخرج المتهم من معتقله بعد ثبوت براءته، أو تسوية أوضاعه، أو شاهداً يمنح شهادات حسن سلوك لأي فرد من أفراد القرية، فيختم بالختم، بصفته لا يعرف القراءة ولا الكتابة.. تجده يسحب ختمه من الجيب الصغير لقُمبَازِه، ويطج الختم، ثم يقبض المبلغ المطلوب، وفي العادة هو يقبل المعروض عليه، الذي قد يقل أو يزيد عن المتعارف عليه، إذ قرر أن يكون كريما في القبض، ودوداً، لطيفا مجاملاً للجميع، ولا يزعل أحداً...
نتحدث أنا وصديقي نايف ونحن على الطريق الذي ذهبنا إليه من بيتنا، سيراً على الأقدام للوصول إلى بيت المختار القريب، حيث العشاء ينتظرنا على الجمر..
وعلى طريق العشاء حدثني نايف عن المختار «أبو طامس»، الرجل الذي صار أكثر نشاطاً، منذ أن استلم المخترة، وتسلح بالختم، وحتى صار أكثر شهرة بين معلمي المدرسة وطلابها الذين يعرفونه مراسلاً في المدرسة، حيث أن القانون لا يمنع ازدواجية الوظيفة، وهذا ما فتح على المختار أبواب نظرة مستقبلية.
دخلنا، فاستقبلنا المختار والفرح يكاد ينط من بين عينيه، رغم أنه جفل عندما شاهدني، وكأنه استغرب حضوري الدعوة، ثم راح ينظر في قائمة بين يديه، ويُعلِّم مؤشراً بقلم، لدى دخول أي معلم مدعو، ليسقطه من قائمة المنتظَرين، ثم يُعلق القلم على أذنه..
ولكن ملاصقتي لصديقي نايف منعته من الاعتراض على حضوري.. انتبه الأستاذ نايف لاستغراب أبو طامس، فعرّفه عليّ بصفتي أعز أصدقائه، وزميل سابق له في المدرسة.. وقال له: «ولا تنسى أنه موظف بنكيّ.. أقصد إنه مركز مالي، قد تحتاجه في يوم من الأيام.» شعرت بخجل على هذا التعريف، ولكنني تقدمت بجرأة رأس المال المتحرك على رجلين. تطفلتُ بالنظر إلى القائمة المتسخة المتثنِّية المتدلية من بين يديه، فكانت مكونة من اثنى عشر رقماً.. أقصد اسماً..
سألت نايف عن هذه الأسماء، فسرد لي قصة أبو طامس من طقطق إلى سلام عليكم.. قال لي:
«كان أبو طامس يعمل مراسلاً في المدرسة، وهو بالكاد يعرف الطاء من التاء.. ويتأتئ بالحروف المُتَهجّاة لاسم مطلوب منه قراءته.»
«وهذا ليس عيبا» قلت له: «ما دام يحسن توصيل الرسائل وخدمة المدرسة.»
ولكن صديقي قال:
«في هذا العام، ومنذ أن غاب أخوه المختار الأصلي واسمه «عنقود الشايب»، قرر أبو طامس بكل جرأة أن يحصل على شهادة الثانوية (التوجيهية). وكأنه كان يفكر في الأمر، ولا يجرؤ على النطق به. أما وقد سمع بأحقية دخول الكبار امتحان الثانوية العامة بدون تقديم امتحانات الصفوف السابقة، فلقد قرر بعد الاتكال على الله أن يهجم، ويخوض غمار العلم والحصول على الشهادات. ولتحقيق غرضه، شاور المراسل، وفاوض، ووضع الخطط الكفيلة بإنجاحه.
وبناء على مناقشاته مع اثنى عشر معلماً طالما خدمهم أبو طامس، وكثيراً ما عتّم لهم على مشاكل سلوكية، وجنح أخلاقية، لا يعلمها إلا الله، ولا أريد أن أكشف عن مشكلة منها، لكون المخفي أعظم، ولأن الله أمر بالستر، نظّم أحدهم له أوراق التقدم لامتحان الشهادة الثانوية، فحمل الأوراق بكل اهتمام وجرأة، وقدمها لدى اللجنة الإدارية للقبول، ثم بدأ تحركاته لحشد النجاح المضمون، رغم كونه لا يجيد القراءة ولا الكتابة، ولكنك كثيراً ما تجده يردد مقولة أن «المكتوب يُقرأ من عنوانه».
وبالفعل تم كل شيء، إلى أن دقت ساعة البدء في قاعات الامتحان، فشكلوا فريقاً مسانداً، يستعد بموجبه كل معلم منهم للإجابة على أوراق مادة من مواد الامتحان، حسب تخصصه.
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فبالصدفة اعترض مراقب القاعة على دخول أي معلم اثنى عشري باتجاه الطالب المُمتحَن أبو طامس، الذي كان يرتجف منتظراً وصول النجدة الموعودة، وبعد منع أولهم من الدخول، صار مرعوبا من عدم تحقيق هدفه المنشود، لتثبيت شهادة ثانوية له، ترْفَعُ راتبه الذي لم يتطور منذ عدة سنوات، ومن ثم ترفعُ قيمتهُ المعنوية بين باقي المراسلين على الأقل..
باختصار، احتج المعلم المارق على منع التواصل مع مراسلهم الذي يخدمهم جميعاً، حتى أن هذا المراقب الفيلسوف، المتشدد في الرقابة ، وهو ضمن المعلمين المخدومين ..فأجاب مراقب القاعة بقسم قاطع مانع، أن لا يُدخل أحداً من هؤلاء الملاعين الاثني عشر إلى هذه القاعة لإسعاف أبو طامس..
وبعد مليون محاولة، وتزلف ومراوغة، فهموا منه أن مراقب القاعة حاقد على ابو طامس، ذلك لأن المختار تجاهل تسجيل اسمه في قائمة المدعوين إلى العشاء، فاضطر لقطع صلته بشريان الحياة الذي كان مقررا أن يكون ممدوداً للتواصل مع هذا ال...
وبطريقة أو بأخرى، تفاهم أحدهم مع المراسل أبو طامس، فدبر الموضوع، إذ اتفق معه على دعوة المراقب إلى العشاء، وتبليغه أن اسمه كان أول الأسماء، ولكنه سقط سهواً عند تصوير القائمة. وبهذا استطاع تليين موقف المراقب، خاصة بعد أن أبلغه بأن أبو طامس مراسلٌ ملعون، إذ أنه يخفي قضايا ومشاكل كثيرة مسكوتا عنها، كان هذا المراقب العنيد قد عملها في المدرسة، ولكن أبو طامس بقي متحفظا عليها، ومؤجلاً إياها ليوم الضيق والفرج.. وبناء على ما تم تداوله من ترغيب وترهيب، تمت دعوة المراقب العنيد إلى العشاء، كنوع من الصلح.. وبهذا فتح الخط، فسَمح بتسريب أوراق الإجابات مكتوبة جاهزة، ليسلمها أبو طامس بيديه الكريمتين إلى صندوق الإجابات.
وباختصار، كانت نتيجة الامتحانات المعلنة في قوائم الناجحين غامضة، أو غير واضحة، إذ أن أحد المسؤولين في المدرسة، المتورطين في تلفيق التلفيق، طلب وضع اسم ابو طامس في نهاية قائمة الناجحين، على أن يطوي موظف لصق الإعلانات اسم أبو طامس، ويضغط عليه بمكبس دبابيس تثبيت اللوحات، فلا يظهر اسمه، وذلك منعاً للفضائح، خاصة بين من يعرفون أنه لا يجيد القراءة ولا الكتابة.
ولكن الذكي الحصيف أبو طامس كان قد انتبه إلى تلك اللعبة الخبيثة، فحصل على صورة أصلية من قائمة الناجحين، ونسخ منها اثنتي عشرة نسخة، وكان حريصاً في ليلة العشاء هذه على أن يسلم نسخة من قائمة الناجحين إلى كل ضيف يصافحه عند الباب، والتي كان اسمه بارزاً في ذيلها بكل وضوح، لأن أبو طامس كان قد صبغه بخط فسفوري أصفر، ليوضح أنه قد نجح بتفوق، وبعلامة مقدارها اثنان وثمانون في المائة 82%.
لم يفاجأ أحد بما فعلت يداه.. المهم أن وليمة العشاء كانت مهولة، إذ بعد بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، شمّر كل منهم عن ذراعه، وغاصت يده اليمنى في المنسف الذي يتصاعد من لحمه البخار.
وبعد الانتهاء من اللهط، ولحس الأصابع للعق ما لصق عليها من حبات الأرز واللبن، تم استخدام الصابون المُطَيّب، والغسيل بماء إبريق وضوء، راح يصبه طامس ابن أبيه، ثم يقدم فوطة موحدة لتجفيف الأيدي من الغسيل، كانت الحكايات والابتسامات والضحكات تلعلع في أرجاء بيت المختار..
بعد انتهاء الأكل، تحولنا لنأكل حلويات الكنافة الشهية، التي صنعها أمامنا شاب قالوا إنه نابلسي متخصص في صناعة الكنافة، إذ كان يضع صدر الكنافة على نصب حديدي دائري وتحته نار صادرة من أسطوانة غاز، حتى نضجت الجبنة من أسفل، ثم قلبها على طبق مشابه، ليشوي الشعيرية، وأعادها ثم صب عليها القَطْر وهو ماء مغلي بالسكر، فكانت رائحة الشواء تعبق الأنوف، أكل كل منا قطعة تم توزيعها علينا، ثم شربنا القهوة العربية السادة، وأخيراً قدم لنا (أبو طامس) الشاي الغامق العسلي السكر، ثم ودّعَنا بكل حفاوة واحترام.
نسيت أن أقول لك أنني التقيت صديقي نايف صدفة ليلة أمس، وبعد السلام والكلام، وتذكُّر الماضي، سألته عن (أبو طامس) الذي ما تزال حرارة منسفه تعبق في أنفي، وحلاوة كنافته النابلسية تحت لساني، فقال لي:
« لقد حصل على شهادة ماجستير.»
«ماذا؟ شهادة ماجستير؟»
«نعم شهادة ماجستير، فالرجل طموح، ويستحق.»
وعندما سألته عن بحث الرسالة، قال إنه اشتراه من مكتبة تعرض خدماتها في باب الجامعة، حيث الأكشاك هناك تبيع لك الدراسة التي تريدها، وذلك لتقديمها برداً وسلاما على طالبي العلم والشهادات العليا.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :