-

كتابنا

تاريخ النشر - 28-03-2023 10:21 AM     عدد المشاهدات 390    | عدد التعليقات 0

الكرامة والأرض

الهاشمية نيوز - الدكتور سلطان الخضور
للجنة أبواب ثمانية يدخلها كل حسب عمله، والكرامة أبوابها ثمانية، يتحدث عنها كل حسب اختصاصه، فها قد اخترت اليوم أن أدخل من باب الأدب، وما أدرت المفتاح حتى فتحت لي أبواب الأرض والانتماء والشهادة والنصر والحق، وباب الرباط وباب الصّحابة وباب التاريخ الإسلامي.
أي قدر هذا الذي جمع الأرض والكرامة، وجعلهما مناسبتين متلاصقتين في حدود المكان، متقاربتين في حدود الزمان، لا تفصل بينهما الا أيامٌ معدودات.
ولا عجب فالأرض صنو الكرامة، ولا يكاد المرء ينتهي من الغوص في معاني الكرامة، إلا ويجد نفسه مضطرًاً للغوص بالأرض وما يتصل بها من معان.
يلتصق المعنيان، معنى الكرامة ومعنى الارض التصاق الروح بالجسد، حتى لا يكاد يفصل بين المعنيين فاصل، فحينما تاقت الأرض للكرامة، على أرض الكرامة لبت الكرامة النداء.
والكرامة الأرض على مقربة من هنا، هي جزء من أرض الحشد والرباط، بقعة من الأرض افترشها المجد، في الحادي والعشرين من آذار عام ألف وتسعمئة وثمان وستين، افترشها المجد، وحطّ رحاله على أرضها، فابتسم التاريخ مرحبًا، ورسم المجد على أرضها ملحمة عنوانها الكرامة ومكانها الكرامة، فجاءت الكرامة المعركة على أرض الكرامة لتجدد للأمة معنى الكرامة.
سجل التاريخ يوم الكرامة بأحرف من نور، وارتوت الأرض « أرض الكرامة « بدماء شهداء الكرامة، فغرست شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أعطت أكلها في ليلة وضحاها، أعطت ثمرًا طيبًا، لا يتذوق طعمه إلا من تاق إلى الحرّية وفهم معني الكرامة وأدرك معاني الانتصار.
والكرامة الزمان على مقربه من التاريخ الحديث، تسعة أشهر مرت على واحدة من الهزائم في التاريخ العربي، هي فترة الحمل وميلاد الكرامة، حملت العروبة الكرامة بعد هزيمة حزيران، حملتها في حزيران وأنجبتها في آذار، أنجبت المجد الذي أبى إلا أن تكون الكرامة أرضا لمولده، نجح المجد في اختيار المكان حين اختار أرض الكرامة، وكأني به يأبى إلا أن يكون على مقربة من أضرحة الصحابة الأجلّاء. وكأني به يأبى إلا أن يكون ملاصقًا لأرض فلسطين أرض الإسراء والمعراج.
وكما نجح المجد في اختيار المكان، نجح في اختيار الزمان، فاختار آذار ليقول: حملتني أمي بعد الهزيمة في حزيران، وها أنا اليوم على أرض الكرامة، أجدد سفر الانتصار.
والكرامة المعنى، ولدت حين ولد حرف الضاد، فجاءت الكرامة كمفردة من مفردات العرب لتعني العزة والفخار والظفر والانتصار. قيمة معنوية، وحق طبيعي وهبه الله للإنسان حيث كرمه على العالمين.
وتعمّق المعنى حين بزغ فجر الإسلام، فالكرامة المعنى ... جدار صلب بني على أساس سليم، بني على أساس الفهم لمعاني الحرية والمسؤولية والامانة والصدق وحب التضحية والعزيمة والإباء، مفردات حملتها العربيّة وعزّزها الإسلام، مفردات تجذرت في الذهن العربي وجاءت على عجل حين استدعتها الكرامة الموقعة.
فكان للكرامة الموقعة السّبق في تجسيد وتعميق حالة جديدة على التاريخ الحديث. حالة جسدها الفعل لا القول، أنجبت الكرامة نصرًا صنعه الأشاوس من الرّجال، فأنجبت الكرامة من جديد مولودًا يعشق حالة الوحدة ويكره حالة التوحد، يحب الانتماء وينبذ الفرقة والانفصال، فاختلط الدّم بالدّم، وجددت الكرامة الحياة على ضفتي نهر الأردن الخالد، حالة تقوقعت أمامها كل دعوات اليأس والانكسار، حاله فريدة بعثت في الأمّة الحياة، فتدفق الدّم بعد الكرامة في شرايين الأمّة من جديد.
والكرامة المعركة، موقعة سطّرت كل معاني البطولة والإباء، نسخة جديدة من إحدى معارك الإسلام، فئة قليلة مجرّدة إلا من الإرادة، وما خف من السّلاح، تغلب فئة كثيرة بكامل عدّتها وعتادها، مدجّجة بكل أنواع الأسلحة بأحدث الآليات إلا من الحق، وكأني بأبطال الكرامة، يستحضرون مؤتة على عجل، فتلبي مؤتة نداء الكرامة لتجدّد التّاريخ. وتحلق في سماء الكرامة ارواح الشّهداء، لتكون مظلة يستظل بها من آمنوا بربهم وبأرضهم وبالتاريخ.
واعطت الكرامة المعركة درسًا في العلوم العسكرية، درسا كان عنوانه « الإرادة تتحدى العدّة والعدد». تحدّى رجال الكرامة واحدة من أعتى القوى الموجودة على الأرض، فحققت النّصر على عدو الكرامة الزّمان والمكان والموقعة والمعنى.
واستطاعت الكرامة الموقعة بهمّة الرّجال، أن ترسم على أرض الكرامة، خطّين متعاكسين، كتب على واحد منهما الوعي وما يمثله من أيمان بالأمة ومقدراتها، وعلى الخط الآخر اللاوعي وما يمثله من اليأس والإحباط، فخاض الوعي واللاوعي منذ ذلك الحين صراعا مريرًا، فالوعي يؤمن بأن النصر تصنعه إرادة الرجال، فبذل كل جهده ليستوطن في أرض زرعتها الإرادة وسقتها سواعد الأشاوس من الرّجال. والوعي كما نعلم، يكفر بكل معاني الفرقة والتّشرذم والتمزّق، والوعي يكفر بالإقليميّة والجهويّة والطائفيّة، ويشهد ألا سبيل للنّصر إلا بالوحدة، وأن الأرض كالعرض، لا يفرط بها إلا فاقد الاحساس ومعتل الضّمير.
وبقي اللاوعي منذ ذلك الحين يتربّص بالوعي، متناسيًا أن الكرامة المعنى جدّدت ولادة الوطن، فاندحر اللّاوعي وتأبّط خيباته وارتدّ على عقبيه مذمومًا مّدحورا، كما ارتدّ على عقبيه ذاك المعتدي المدجّج بالسّلاح.
أما الأرض فقد أعلنتها ألف مرّة ومرّة، انها لن تتحدث الا لغة الضاد، وأنها أحبّت من العربية كل الضّمائر، المتكلّم والمخاطب والغائب، وآمنت الأرض أنها جزء من أنا وأنت، ونحن وأنتم، وآمنت أنها جزء من أنتما وانتن وهما وهم وهن وتلكم وتلك وتلكما، فسكنت بعد الكرامة مرتاحة الضّمير.
والأرض إذ أحبت من لغة الأمّة ضمائرها، كرهت في الأمّة ما مات منها وما اعتل. وكرهت الأرض من علم النّفس « الأنا « ما علا منها وما دنا، فالأرض كما نحن، تعلم علم اليقين ان وجودها مرتبط بالعطاء. علمتنا الأرض أن العطاء كما الحب لا يمكن أن يكون إلا من الطرفين.
وتستحضرني كلما تذكرت الأرض وعشقها، صورة فلّاح يدرك معنى الانتماء للأرض، فلاح بسيط، جاء الأرض حين بزغ الفجر، فشمّر عن ساعديه، وخلع نعليه، وأنخرط يمارس مع الأرض عشق الوجود ومعاني الانتماء والعطاء. فبادلته الأرض عشقًا بعشق. فلّاح خلع نعليه لأنه يأبى أن تفصل بينه وبين الأرض قطعة من الجلد تسمى حذاء.
وعلمتنا الأرض أيضّا، عمق الارتباط ما بين ألوانها والوان البشر. فكما أن ألوان تربتها تمتد بين الاسود والابيض، وما تشكّل بينهما من ألوان، وهكذا لون بشرة البشر، تتوزع على مساحات بينهما، لتثبت صحّة حديث رسول الأنام، عليه الصلاة والسلام «كلّكم من آدم وآدم من تراب»، وهنا يكمن سرّ ارتباط الانسان بالأرض.
وحملت الارض على ظهرها كلّ شيء، وكلّ البشر وكلّ ما يسقط من السّماء. وحملت في باطنها معاني الخير والعطاء، فلم تتمنع، ولم تمنع شيئًا عمّن أحبها، تأخذ جهدًا بسيطًا، وتعطي كل شيء.
وما الأرض التي تعطي من سطحها ومن جنباتها ومن باطنها، إلا جزءًا من أرض العروبة والإسلام، وما الكرامة المكان والزمان والمعنى والمعركة إلا جزء من تاريخ العروبة والإسلام، وما كلتاهما الأرض والكرامة، إلا مفردتين مرتبطتين بأردن الحشد والرّباط.
وتستحضرني وأنا أتحدث عن الأرض أيضًا، رائحة التراب ...حين تسّاقط حبات المطر، تبلّل حبات المطر ذرات التّراب، فتنبعث رائحة الأرض عبقة زكيّة.
أمّا رائحة التراب بعد الحرث ... حين يقلب المحراث التراب، تنبعث رائحة لها نكهة خاصة، رائحة مميزة...لا تقترب من أي رائحة، ولا نستطيع أن نقول عنها إلا أنّها رائحة الأرض أو رائحة التّراب، رائحة يتوق كل الذي قوّى علاقته بالأرض والتّراب إلى شمّها، رائحة أشعر أنا شخصيّا أنها مزيج من كل مكوّنات النّباتات والأزهار، تنطلق من باطنها، تعانق فضاءاتها، وتعزف ألحانها، على وقع نسماتٍ عليلةٍ لا يستمتع بها إلا من يعشقها.
« لا يستمتع برائحة الّتّراب الا عاشق الأرض وعاشق التّراب. «
رائحة التّراب، يشتمّها كلّ من اقترب منها، إلا أن وقعها، وتأثيرها على النفس، ودرجة التأثّر بها، ومدى استفزازها لأنوف النّاس أمر نسبي، يختلف من شخص لآخر، وما يتحكم بالموضوع هو أمر واحد ، وواحد فقط ، فلا يرتبط تأثيرها بالفقر أو الغنى أو اللون أو الجنس أو الموقع أو الجاه أو غير ذلك من مفرقات البشر، بل ما يتحكم بالموضوع هو مقدار ارتباط الشخص بالأرض وبتربتها، ومدى قربه منها وبعده عنها، فمن يمشي على مقدمة قدمية، لا يشعر بها، بقدر فلّاح أصبح ترابها جزءا من مكوّنات قدمية، ودخل طينها شقوق كعبيه، فرائحة التّراب تلتصق بمن تحب، وتتعالى عمّن يتعالى عليها، فتعاقبه بحرمانه من عبيرها ، ولا تعطيه إلا بقدر محبّته لها.
وحكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت، أن تكون بداية الحياة على التّراب، وأنّ تكون نهاية الحياة في التّراب. والرّزق الذي تجود به السّماء، يلتقط من فوق التّراب، ومن تحت التّراب ومن ثنايا التّراب.
والنّبات الّذي نأمل أن يأتي أكله بعد حين، نغرسه أو نبذره أو نزرعه في التّراب فيخرج إلينا مورق الأغصان، يعطي ثمرًا متعدًد المذاق، ومتعدّد الرّوائح والألوان، وكأن هذا كله يمتزج في باطن الأرض، ليعطينا رائحة لا تحسب على أي منه منفردًا، وإن ساهم في تكوينها فنستمتع بها وكأنّها خلطة سحريّة من هذا وذاك.
حين تختلط رائحة التّراب برائحة المطر، يختلط عطاء الأرض بعطاء السّماء، فيكون النّتاج رائحة زكيّة نقيّة. إنها رائحة التّراب.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :