-

كتابنا

تاريخ النشر - 14-03-2023 10:09 AM     عدد المشاهدات 151    | عدد التعليقات 0

عبء الذكريات في قصص (ذاكرة متكسرة) لروند الكفارنة

الهاشمية نيوز - موسى إبراهيم أبو رياش
صدرت مؤخرًا مجموعة «ذاكرة متكسرة» للقاصة روند الكفارنة، في عمّان عن جفرا ناشرون وموزعون، وجاءت في 112 صفحة، تتكون من ثماني عشرة قصة بين القصيرة والقصيرة جدًا. تنوعت موضوعاتها، وغلب عليها الجانب الاجتماعي، وتوسلت الكاتبة بالذكريات في كثير من قصصها، باعتبارها المحركة للأحداث، والمتحكمة بالمشاعر، والمتسببة بالآلام، وتلعب دور البطولة الحقيقية فيها.
الذكريات عبء وحمل ثقيل، حتى وإن كانت جميلة، فالمقارنات بين الماضي الذي تستدعيه الذكريات والحاضر الذي نعيشه، تسبب ألمًا وتوترًا وحسرة وحنينًا وندمًا. وتداعي الذكريات متعب في كثير من الأحيان، ويرهق القلب والروح، ويشغل الفكر، وقد يوهن الجسد، خاصة وأن عودة الذكريات مرتبطة بحدث أو موقف أو شخص أو صورة أو حتى رائحة أو طعام أو مكان أو تصرف ما. الذكريات استنزاف عاطفي، وغالبًا ما تقترن بالوحدة والعزلة والمرض وحالات الحزن والفقد والسفر والوداع. وفي مجموعتها، اتكأت روند الكفارنة على الذاكرة والذكريات في بعض قصصها، وتتناول هذه المقالة عددًا منها.
ذاكرة متكسرة:
وهي القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، والأطول في المجموعة، واحتلت أكثر من ربع عدد صفحاتها. واستطاعت الكفارنة أن تأخذنا في سرد جميل، زاخر بالمشاعر والعواطف، متقلب ومتغير، من النقيض إلى النقيض. ولعبت الذاكرة لعبتها الذكية الماكرة في هذه القصة، وكانت الفاعل الأكبر في انقلاب جاسم من الكره والحقد والرغبة في القتل إلى التفهم والحب والتسامح، الذي قاده في النهاية إلى التحول من ممثل فاشل إلى كاتب سيناريو ناجح.
لا شيء يُنسى في الحقيقة، ولكن الأحداث تدفع بكثير منها إلى خزائن الذاكرة، وبسبب ما يمر علينا من منغصات وظروف قاسية، نفسر كثيرًا من الأمور من زاوية ضيقة متأثرة بحالتنا النفسية وظروفنا المادية، وقد نسيء التصرف، ونقوم بأعمال نندم عليها لاحقًا عندما يتبين أننا فهمنا الأمور بشكل خاطئ. وفي هذه القصة كان جاسم يحمل تصورًا كريهًا تجاه عمته، ولذا عزم على قتلها، ولكن حدث ما لم يتوقع، وبدأت عمته دون قصد منها، وهي لا تعرف نواياه، تستدعي ذكريات قديمة، فأنقشع ضباب الذاكرة، وعادت الذكريات جميلة نقية صافية، وعندها أدرك أنه ظلم عمته وابنها، فعادت له روحه ورغبته بالحياة بشكل مغاير، وأعاد النظر في مسيرته وتعثرها، وتبين له أنه خلق ليكون كاتبًا لا ممثلًا، وكتب سيناريو لقي القبول والموافقة.
تضعنا هذه القصة أمام أنفسنا، وأن لا ندخل في نوايا الآخرين ونفسرها على هوانا، وأن لا نأخذ تصرفات كبارنا بظواهرها دائمًا، فثمة مقاصد لا ندركها في وقتها، نراها قاسية مؤلمة، ولكنها لمصلحتنا ومن أجل مستقبل أفضل لنا. ويتطلب منا هذا إزاء الآخرين بشكل عام قليلًا من التسامح والتفهم والتغافل وإيجاد العذر، دون تنازل بالطبع عن كرامتنا وحقوقنا.
صندوق الذكريات:
يقوم الفيسبوك بوظيفة مزعجة في الغالب، وهي التذكير بمنشورات سابقة نشرت في مثل هذا اليوم قبل سنوات. وفي هذه القصة يذكرها الفيس بالرجل والقميص الوردي، الذي دخل حياتها بقوة وعفوية دون تخطيط أو مقدمات، ولما تعلقت به تركها وغاب إلى الأبد. تقول: «كيف يمكن لرجل كنت كاملة قبل أن ألتقيه أن يأخذ هذا الجزء الكبير من روحي حينما يغيب... كنت أكثر خساراتي ربحًا وأشدها قهرًا».
كانت قد نسيت هذه القصة أو تناستها وطوتها في ملفات دستها بعيدًا، ولكن الفيس أعاد إليها الوهج من جديد، مع ما رافقها من أنين وخيبات وخسارات، وشعور بالخذلان وانكسار الروح التي حلمت بالكثير، فلم تقبض إلا الريح، وأي ريح، ريح باردة تصيب القلب بصقيع لا تقشعه المدافئ ولا المواقد.
الفيس لن يستجيب لرجائنا وتوسلاتنا، ولا يعترف بمشاعرنا، ولا يقدر رهافة قلوبنا، ولن ينزع شوكنا إلا أيدينا، ولذا من الأفضل حذف منشوراتنا المؤلمة أولًا بأول، وتعشيب صفحاتنا بشكل دوري، حتى لا نترك للفيس علينا سبيلًا، وأن لا نسمح له أن يمارس علينا ساديته وتذكيرنا بما يفتق جروحنا.
ضرب مبرر:
تتقاطع الذكريات في هذه القصة بين شابين، كان أحدهما يتنمر على الآخر في المدرسة. وعندما كان الضعيف منهما يهدد المحاسب بسلاح أبيض ليستولي على نقود المحل، وسط رعب الزبائن، دخل المشهد صدفة الشاب المتنمر، ولما عرف كل منهما الآخر، تذكر المتنمر سطوته، وتذكر الضعيف وزنه الحقيقي أمامه، ولعبت الذكريات لعبتها، كأن شيئًا لم يتغير، واستطاع المتنمر أن يسيطر على الأمر، ويوقف عملية السطو، ويذيق الضعيف ضربه المبرح من جديد.
يكمن جمال هذه القصة وعمقها النفسي في أن الذكريات كان لها الكلمة الفصل في موقف حرج، ولم تتغير موازين القوى بين الشابين على الرغم من تقادم الزمن. لم يكن للوضع الحالي لكل منهما أثر، بل احتكما للماضي، للذكريات، لسطوة الذاكرة، وكأن الذاكرة تجمد الزمن عند لحظة معينة، ليعود التاريخ أدراجه إلى البعيد، ليصبح التاريخ حاضرًا بكل تجلياته.
هذه القصة واقعية تؤكدها التجربة، إذ تحكم التجارب السابقة والمشاعر والمواقف علاقات الناس مهما تقدم بهم العمر، يتغيرون في الغالب، لكن التصور السابق، العلاقات القديمة، تبقى هي المسيطرة والمتحكمة، ليس عند الجميع بالتأكيد، فثمة أناس يتسمون بالمرونة والقدرة على التكيف والنظرة الإيجابية، ولا يبقون أسرى الماضي، بل ينظرون للأمام، ويتعاملون مع اللحظة بحياد زمني غير متأثرين بذكريات وماض عفى عليه الزمن، وهذا هو الأولى، أن لا نترك الذكريات تملي علينا حاضرنا ومستقبلنا، فالتغير سمة الحياة، ولا يتوقف عند الماضي إلا ميت!
حقائب سفر:
كانت في صالة المغادرين، تنتظر النداء، عندما لمحت طيف رجل، فكاد يغمى عليها، كانت تظنه ميتًا إثر قنابل حارقة أتت على عمارة كان فيها، ولما تقابلا عاتبته؛ أن تركها تتألم فقده وخسارته، وهو ما زال على قيد الحياة. كانت تعيش على ذكرياته؛ ذكريات رجل تحدس أنه حي، ولكن من يتوقع أن ينجو من حريق التهم العمارة بكاملها؟
أخبرها أنه لم يعد هو الذي تعرفه، لقد مات فعلًا، وولد رجل جديد، فما عاناه من حروق وألم ومشاهد مرعبة وأصدقاء يحترقون ويموتون أمام عينيه، وما شاهده بعد ذلك من جثث أطفال أبرياء ودمار، كل ذلك غيره، وجعل منه رجلًا آخر. إنه يهرب من ذكرياته الدموية، إلى واقع يرجو أن يكون مختلفًا، ولكن هيهات، فعمله في التغطيات الإعلامية الميدانية في فلسطين يجعله يعانق الموت والدمار في كل لحظة، ويخبرها أنه كان بجوار شيرين أبو عاقلة عندما اغتالتها رصاصة قناص مجرم.
يسألها عن حقيبة سفرها الخفيفة، على غير عادة المسافرين، فتقول: «إنني لا أملك ترف قتل الحب في داخلي، لا أستطيع السفر رفقة قلوب خالية كما أفعل بالحقائب. أحمل أصوات الغائبين ورسائل لم أقو على بعثها، ورسائل تحمل أحلامًا فات أوان تحقيقها، وحقائق لم أقرر بعد مواجهتها، ثقيلة هي؛ أثقل من امرأة لا تعرف عدد الجروح في جسدها أو روحها. تفكر بأن أقرب من سينجدها، لو صرخت، شاهد قبر محى الزمن اسم صاحبه».
تشير هذه القصة أن النسيان مستحيل، وأن الذكريات لا تزول، وستبقى جاثمة على صدر صاحبها، تتوارى ولكن لا تمحى، وستعود يومًا في لحظة لا يريدها، وتفعل فعلها من جديد، وكما لا يستطيع المرء أن يختصر عمره، ويحذف أيامًا لا تسره، فلا يمكنه أن يمسح ذكريات عاشها ذات بؤس أو ألم أو حزن.
ذاكرة العطر:
صنع لها عطرًا خاصًا بها، يتوافق مع شخصيتها، على يد صديقة له محترفة، صنعت عطره الخاص من قبل، وأذهلها أن العطر يشبهها، ولكن المرأة قالت لها محذرة: «العطر فخ الذاكرة الأكثر خطورة، مخفي، بسيط، ولكن مخالبه تغرز بالذاكرة طويلًا ولا ينجو منه عاشق... أنا أنصح زبوناتي بصنع عطرهن وهن في حالة تحرر من أي علاقة حتى لا ترتبط الرائحة بشخص ما. للعطر ذاكرة لا تنسى ولا تشيخ، وربطها بالأشخاص يجعل نسيانهم أو التحرر منهم أصعب مما تتخيلي، فأنت لن تحتاجي سوى رشة عطر ليغدو جرحك طريًا طازجًا جاهزًا لتنقض عليك ذئاب الذكريات».
ولما رفضت أن تسافر معه، قطع علاقته معها، وتركها تلوك ذكريات حلم أجهض، وتتقلب بين آلام الهجر والقطيعة. وبعد سنوات جاءها عبير عطره، فأدارت رأسها، كان يسير مع امرأة أخرى، يحثها على السير بسرعة ليصنع لها عطرها الخاص عند صديقته إياها.
ذاكرة العطر لا شك فيها، وكثيرون يقعون أسرى عطر محدد لا يغيرونه ويعرفون به، يحفظ صورهم في ذاكرات الآخرين. تعرف المرأة زوجها من عطره، ويعرف الرجل زوجته من عطرها، ويعرف الصديق صديقه من عطره، وإذا فرقتهم الأيام، وتباعدت طرقهم، وعادوا يومًا ما، فإن عطرهم يسبقهم، يفتح صندوق الذاكرة، ويهيج المشاعر، ويعود الفيلم ليدور من جديد.
وبعد؛ فإن مجموعة «ذاكرة متكسرة» للقاصة روند الكفارنة، متميزة بسرديتها التي تغوص في أعماق النفوس، وتصور المشاعر ببراعة، وتنتصر للإنسان بآلامه وأحزانه ومعاناته وضعفه، مع ميل مبرر للمرأة. وعلى الرغم من بعض الملاحظات اللغوية والطباعية، إلا أن المجموعة تكشف عن نفس طويل هادئ في السرد مهيأ لدخول مغامرة الكتابة الروائية. وهذه المجموعة هي الثانية لروند بعد مجموعتها «للأشياء أسماء أخرى» التي صدرت عام 2021.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :