-

كتابنا

تاريخ النشر - 27-02-2023 10:37 AM     عدد المشاهدات 203    | عدد التعليقات 0

آراء واتجاهات في حقل التاريخ

الهاشمية نيوز -
أ.د. محمد عبده حتامله

إن أبسط تعريف للتاريخ هو أنه مجرى الحياة، وإن نحن وقفنا في نطاق مسيرته فإننا نرنو إلى الماضي، ونتطلع إلى المستقبل الذي نريد إن توافرت لدينا الإرادة وإن لم تتحقق لدينا الإرداة فلابد أن نواجه الذي ينتظرنا.

إن النظرة إلى التاريخ، دراسة وكتابة، تتصل بصورة وثيقة باتجاهات الرأي العام وبالسوية الثقافية، ويتمثل في هذه النظرة التفاعل أو التصادم بين الآراء والمفاهيم الموروثة وبين الآراء والاتجاهات الجديدة، ولئن كانت هذه الفرضية تحتاج إلى شيء من التعديل حين ننظر إلى الكتابة التاريخية لدينا فإنه يتبين لنا أن هذه الكتابة التاريخية لم تتبلور منالأساليب الموروثة، وإنما تأثرت بالأساليب الغربية مع بدايات النهضة الحديثة، ولئن كان هذا قد بث فيها حيوية جديدة فإنه أدخلها في فترة تقليد ومتابعة تخللت القسم الأكبر منها. وقد يبدو هذا مفهوما حين ننظر إلى التاريخ باعتباره جزءا من الحركة الثقافية، لكن هذه النظرة تصدق على العلوم البحتة أكثر منها على العلوم الاجتماعية، ولايغيب عنا أن حقل التاريخ يتأثر بنظرات ومفاهيم عامة تؤثر فيه وتعرقله.

إن صلة التاريخ صلة وثيقة بالاتجاهات الفكرية والتطورات العامة، يتأثر بها ويؤثر فيها، وهذا يوضح تباين الاتجاهات في تعريف التاريخ وتحديد دوره، فمنهم من يراه البحث عن الحقائق وتدوينها، ومنهم من يعتبره ربط الحقائق وتفسيرها، فالمؤرخ يختار المادة الأولية ثم يكسبها مفهومها التاريخي، ويظل المؤرخ هو محور الموضوع.

ونشير في هذا الصدد إلى ما قاله "كروجيه" وهو أن التاريخ تاريخ معاصر، أي أن التاريخ يتكون من رؤية الماضي بمنظار الحاضر، وأن عمل المؤرخ هو التفسير لا التسجيل.

ويرى فريق أن الصلة وثيقة بين المؤرخ وحقائق التاريخ، فالمؤرخ دون حقائق لا جذور له، والحقائق دون مؤرخ تبقى دون حياة أو معنى، فالتاريخ إذاً هو عملية تفاعل متصل بين المؤرخ وحقائقه، أو هو حوار متصل بين الماضي والحاضر.

وتعريف التاريخ، وكذلك تفسيره الحديث، يرتبط أساسا بسير المجتمعات الغربية وتطور الفكر الغربي.

لقد مر العصر الوسيط الذي سيطرت فيه الكنيسة وساد الاتجاه الديني، ثم جاء عصر النهضة الأوروبية الذي قوي فيه التأكيد على دور البشر ومسؤوليتهم في أحداث التاريخ.

وتلا عصر النهضة فترة جديدة اعتبر فيها التاريخ سبيلا للمحافظة على الأوضاع القائمة واشتدت العناية بحفظ الكيانات.

أما في عصر التنوير فظهر اتجاه جديد، مفاده أن حقل التاريخ مفيد لفهم فعاليات البشر دون أن يتحكم فينا، وظهرت النزعة العقلية وسادت فكرة التطور والتقدم البشري ولما قامت الثورة الفرنسية أعلنت انتصار العقل البشري وبشرت بإقامة مجتمع جديد، لكن تيار الرومانتيكية ظهر بعد الثورة الفرنسية بسبب خيبة الآمال في ما حققته الثورة.

ولما حصل التقدم العلمي، ورافقه التأكيد على قوانين الطبيعة برز الاتجاه غلى ربط التاريخ بالعلم، وقامت المدرسة الايجابية في القرن التاسع عشر وحاولت أن تجد للتاريخ ومن التاريخ قوانين لتطور المجتمعات ونماذجلهذا التطور، فأكد "هيجل" فكرة العقل الفعال، وأعلن أن البشرية تسير نحو عصر ذهبي، وأن الفكرة أو العقل وراء تطور التاريخ.

ومن هذه الفرضيات تحولت الفكرة التي تسّير التاريخ عند "هيجل" إلى تبديل طرق الانتاج وتغيير ملكية وسائل الانتاج وما يحدثه ذلك من علائق جديدة تكمن وراء حوادث التاريخ. ولئن رأى "هيجل" في التاريخ مجالاً لتبرير فلسفته فان "ماركس" رأى في التاريخ وسيلة لإحداث ثورة في صالح الطبقة العاملة. وهكذا ظهر اتجاه نحو تفسير التاريخ في أطر من القوانين والمراحل، ولعل آخر من حاول التعبير عن هذا الاتجاه هو المؤرخ "أرنولد توينبي" في كتابه: دراسة في التاريخ.

وقد لاقى هذا الاتجاه ردود فعل من بعض المؤرخين فهم لا يستطيعون أن يهملوا دور المجهول في التاريخ، أو أن يغفلوا التعقيد في الظروف واختلاف الامكانات، فراحوا ينشدون التوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الظروف وامكانيات الابداع في التاريخ.

ومع أن بعض النظريات تفوقت وشاعت، إلا أن التباين في وجهات النظر واختلاف الآراء، ظل ظاهرا، وقد تباين الرأي بين من يأخذ بفكرة أساسية في تفسير التاريخ، كفكرة الحرية أو العقل المسيطر، وبين من لايرى ذلك ولا يريد غير الاستقراء.

ولئن كانت هذه الآراء والتحليلات قد قامت في إطار سير التاريخ الغربي، فإن تطورات حديثة خارج أوروبا أثرت بدورها في فهم التاريخ ومن ذلك الحركات الاستقلالية والتحررية خاصة في آسيا وأفريقيا.

وقد أدخلت هذه الحركات والتحولات عاملا جديدا في فهم التاريخ عند الغربيين، إذ جعلهم يعيدون النظر في فكرة كانت ملازمة لهم وهي أن التاريخ العالمي إن هو إلا التاريخ الغربي، وأن خبرات البشرية انتهت إليه، وأن التاريخ الغربي منطلق التاريخ ونهايته.

غير أن بعض المؤرخين قدروا أن النظر إلى التاريخ على أنه التاريخ الغربي نظر خاطئ، وأن هناك نظرات للتاريخ غير النظرة الغربية، بل إن فهم تاريخ أي أمة يبدأ من نطاق تجربتها التاريخية ولدى أبنائها.

وبعد هذا الاسترسال في طرح النظريات والأفكار والأراء فإننا نتساءل عن نظرتنا إلى تاريخنا وعن صلة هذه النظرة بالحاضر.

لاشك أننا نلحظ الاهتمام بالتاريخ العربي وصلته بالوعي العربي الحديث، فعند فجر النهضة ذهب البعض إلى دراسة التاريخ العربي لتكوين الثقة بالنفس، أو ردا على الذين رأوا الخمول ظاهرة متأصلة في تكوين الشعب، وقد أدى ذلك إلى الاهتمام بفترات معينة من التاريخ العربي. وهناك حافز آخر دفع إلى الدراسات التاريخية، وهو الشعور بأن فهم الماضي ضرورة لادراك الحاضر، وإن تكوين الوعي التاريخي ضروري لفهم مشكلاتنا الحاضرة بغية الاعداد لمستقبل أفضل، وقد تمثل ذلك في دراسة فترات تقع خارج نطاق العصور الزاهرة، وظهرت الحاجة إلى كتب دراسية، فكان ذلك سببا في وضع الكثير من المؤلفات، ويتصل بذلك كتابة الرسائل الجامعية في نواح مختلفة من التاريخ العربي ولئن كان دور الجامعات في هذا المجال يستحق الذكر إلا أنه يؤخذ عليها أنها ركزت جهودها على التدريس وأغفلت البحث العلمي أسلوبا ونتاجا، وهذه ناحية أساسية في نطاق تاريخ جُلّه لم يبحث، كما أنها تبدو ضرورية لتكوين مؤرخي المستقبل، ولكننا نتساءل هل لدينا تفسير أو تفاسير للتاريخ العربي؟

لقد رأى بعض المؤرخين القدامى أن التاريخ البشري، بما فيه تاريخ العرب، تعبير عن المشيئة الإلهية، وهذه نظرة تتمثل في عرض الرسالات المتتابعة منتهية بالاسلام، ليصبح التاريخ بعده تاريخ أمة واحدة هي الأمة الاسلامية وقاعدتها العرب، ومن أمثلة هذا الاتجاه المؤرخ المعروف "الطبري" مؤلف تاريخ الرسل والملوك، ورأى البعض ان في السيرة دليلا وهدى فانصبت الجهود على دراستها لتكون هي القدوة مؤكدين دور الرسول صى الله عليه وسلم في تكوين الأمة وتكوين الأجيال الجديدة، ونستذكر في هذا المجال مغازي الرسول "للواقدي" والسيرة النبوية "لابن اسحاق"، وفسر البعض التاريخ العربي الاسلامي بأنه تعبير عن دور الأشراف العرب في الخروج بالاسلام وحمل الراية ونشر العربية، ولعل مؤلفات (البلاذري) (أنساب الأشراف) خير ما يمثل هذه النظرة. ورأى البعض أن التاريخ سجل لأفراد في مراكز القيادة، بينما رأى آخرون أنه سجل لكافة فعاليات المجموعات من فقهاء وكتاب وأدباء وغيرهم.

وقدم "ابن خلدون" تفسيرا اجتماعيا حضاريا للتاريخ حين ربط بين تطور المجتمعات من البداوة إلى الحضارة وبين قيام الدول وقوتها وضعفها.

ومع بداية عصر النهضة اتصلنا بالفكر الأوروبي وتفاسيره التاريخية وظهرت مؤلفات تتخللها فكرة العروبة، وتتناول تاريخ العرب، وظهرت مؤلفات تحوي نظرات اسلامية في عرض التاريخ العربي، وظهرت دراسات محورها دور الأفذاذ في التاريخ العربي، ودراسات أخرى تعنى بالنواحي الاقتصادية الاجتماعية في التاريخ العربي.

ومن المتعذر وضع هذه الدراسات جميعها في اطار واحد، فجوانب الاهتمام فيها مختلفة، ولكن لابد ان يكون لدينا فلسفة أو اتجاهات معينة، وإن نحن أردنا أن يكون لتاريخنا معنى وأن يكون لدراسته قيمة، فلابد ان نعيد التفكير فيه، في الموضوعات وأساليب البحث، ولعل الجامعات بحاجة لأن تعيد النظر في أساليبها وبرامجها في حقل التاريخ ولن يتيسر ذلك إلا بالتأكيد على البحث وتوفير الأساتذة الأكفياء. لقد أفدنا من دراسات المستشرقين وأساليبهم، ولكن علينا ان نذكر أن المستشرقين هم من بيئات غير بيئاتنا وقد يعنيهم مالا يعنينا.

كما أن كل دراسة من غير ابناء الأمة تبقى محدودة في نظر من يتطلع من الخارج إلى بيئة لم يتغلغل إلى جوها ولم ينفذ إلى طبيعتها .

إن البحث التاريخي لم يعد ساحة مفتوحة لكل الراغبين، فالذي يبحث في تاريخ الفقه والتشريع مثلا يحتاج إلى إلمام بالقانون، ومن يبحث في تاريخ الفكر العلمي يحتاج إلى أساس متين في العلوم والباحث في التاريخ الاقتصادي يحتاج إلى قاعدة في علم الاقتصاد أما المؤرخ الذي يبحث في كل شيء فلن يكون أكثر من جامع مادة، دون استيعاب لمفهومها أو لمدلولاتها، ولابد من التأكيد على أن العناية بفترات معينة من التاريخ أكثر من غيرها ليس إلا نتيجة لظروف المجتمع الذي يعيش فيه المؤرخ، وهنا يعني أن التاريخ لن يكون له معناه إن لم يتصل بالحاضر، ومثل هذه الصلة تلقي الضوء على جوانب حيوية في حياتنا.

ولابد من الإشارة إلى التجزئة في تاريخنا ودور النظرةالعاطفية في ذلك، وهي نظرة تحف بها الأخطار من كل جانب.

هل ينتهي تاريخ العرب بسقوط بغداد؟

وهل يبدأ تاريخ العرب بالقرن التاسع عشر؟

اننا لا نجد مؤلفا كتب بالعربية عن تاريخ العرب يتناول هذا التاريخ وحدة متصلة، فكيف يكون لتاريخ أمة صلة بحاضرها إن هي أغفلت ردحا من تاريخها؟

إن الخطر هنا لا يقتصر على تقطيع تاريخ الأمة وعدم فهم تكوينها وواقعها بل إنه يؤدي إلى ردود فعل غاضبة لدى الشباب الذين لا يجدون مجالا لفهم واقع ينيره شعاع من الماضي، وحين تصعب عليهم المقارنة بين الماضي والحاضر يندفعون في اتجاه مضاد، خاصة إذا رافق هذا الاتجاه اهتمام بالتاريخ السياسي أو العسكري، فلا يرى فيه النشء إلا سلسلة مملة من المعلومات، بدلا من أن يرى النشء تاريخ أمة متشابك النواحي تتمثل فيه المشاكل والانجازات.

إن فهم تاريخنا وفهم ذاتنا، وتكوين جيل يعي مرحلته، وله فكرة، اضافة إلى ما يفرضه البناء العلمي المتين ومتطلبات العصر، كل ذلك يوجب علينا أن ندرس تاريخنا بروح علمية ومن منطلق الفكر لا العاطفة، ولا بد أن نعي أن تاريخنا متصل الحلقات فالأمة التي تتنكر لوحدة تاريخها، وتخشى ان تنقد ذاتها انما تتنكر لوجودها ولمصيرها وتتنكر للعلم أيضا.

إن ما أقوله ليس مجرد تأمل عقلي وإنما هو ما يتطلبه حاضرنا والفكر السوي عندنا.

إن الحاجة تبدو ملحة لأن نعيد النظر في مفهوم التاريخ لدينا وفي أساليب بحثه وتدريسه، وأن نبدأ التفكير بكتابة تاريخنا من وجهة نظرنا إن نحن أردنا أن يكون لتاريخنا معنى ولفكرنا أصالة.

* أستاذ شرف في قسم التاريخ / الجامعة الأردنية






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :