-

كتابنا

تاريخ النشر - 30-01-2023 09:50 AM     عدد المشاهدات 356    | عدد التعليقات 0

المفارقة في القصة الأردنية القصيرة جدًا

الهاشمية نيوز - د. نهال عبد الله غرايبة/ جامعة إربد الأهلية
لون جديد من ألوان الإبداع الأدبي، زادت أهميته على الساحة الأدبية العربية، وزاد اهتمام الأدباء والنقاد به خلال السنوات الأخيرة، تمثل في فن (القصة القصيرة جدًا)، الذي تعود نشأته إلى تسعينيات القرن العشرين، وتعد القصة الأردنية القصيرة جدًا من النتاجات السردية المتفاعلة مع شقيقاتها في المنطقة العربية، وامتاز اللون بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، إضافة إلى سمات الحذف، والاختزال، والإضمار، مع التصوير البلاغي.
تتميز القصة القصيرة جدًا بعامة بعدد محدود من تقنيات القص، فهي كما وصفها يحيى عبابنة في مقاله (تقنيات القصة القصية جدًا في مجموعة قبل الآوان بكثير) «لا تحتمل كثرة اللقطات، ولا تحتمل أيضًا الوصف، فهي عمل لا يحتمل الوصف والاسترخاء على الإطلاق، ولذا فلا بد من وجود افتتاحية تتواشج مع سائر العبارات وختام القصة، فبداياتها بجملة جذابة ومثيرة، وعبارات متحركة ثائرة، ونهايتها جملة تصعيدية»(مجلة أفكار، ع153، ص43).
إن تقنيات القصة القصيرة جدًا تختلف من رؤية نقدية إلى أخرى، فمنهم من رأى أن التقنيات تنحصر في «خصوصية اللغة، والاقتصاد، والانزياح، والمفارقة، والتناص، والترميز، والأنسنة، والحيوان، والسخرية، والبداية، والقفلة» كما وردت في كتاب شعرية القصة القصيرة جدًا لجاسم خلف إلياس (ص150). بينما اعتقد يوسف الحطيني أن تقنيات القصة القصيرة جدًا هي: «التناص، التشخيص، الإيقاع، العنوان، الحوار»(القصة القصيرة جدًا بين النظرية والتطبيق، ص 33-44 ). ويشير علي المومني في كتابه (الحداثة والتجريب في القصة القصيرة الأردنية) إلى أن تقنيات القصة القصيرة هي: «الرمز، البداية، القفلة، المفارقة، ترابط الأحداث، التكثيف، الشعرية، اللحظة المتفجرة، الفجائية، كسر أفق التوقع، التناص»(ص295).
وتجدر الإشارة إلى أن التقنيات على اختلافها متوفرة في القصة الأردنية القصيرة جدًا، فقد يلجأ إليها كاتب القصة القصيرة جدًا مجتمعة، وربما لا يقوم بتوظيفها جميعها في قصصه، فالقاص محكوم بطبيعة الفكرة وصياغة المحتوى في القصة، فالتقنيات وليدة التجريب والابتكار، والذي سمح بالانتقال للكتابة السردية الممزوجة بالشعر، وممتزجة بالخيال والتراكيب اللغوية المدهشة، والاستعارات والصور الفنية المرافقة للاختزال والتكثيف( يوسف الحنيطي، ص203).
المفارقة في القصة الأردنية
هي من «التقانات التي تفعل القصة القصيرة جدًا، وتشكل أحد أسسها الجمالية، إذ تحول الحياتي إلى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة، وتقترح اقتفاء حساسية الخطاب الإنساني في واقع متخم بالمفارقات اليومية الساخرة ومجالات الحياة المختلفة، فهي توفر لنا فرصة التقاط المفارقات ورسم صورة كاريكاتيرية سريعة نافذة لحالة ما»(جاسم خلف إلياس، ص153).
إن المفارقة ضرورة لا بد منها في الأدب، ووجودها يتحدد بمقدار الفائدة والجمالية التي تضيفها إلى النص، فأهميتها تتجلى في قدرتها على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، لها مقدرة على تحفيز دلالات النص عن طريق خلق تناقض ظاهري يوهم المتلقي أنه يواجه موقفًا غير متسق مما يدعوه إلى إمعان النظر فيه في محاولة سبر غوره لينكشف عالم المفارقة والدهشة.
تشكل المفارقة في القصة الأردنية القصيرة جدًا تقنية مهمة؛ لما لها من أبعاد تأثيرية في النص، فلا تكاد تخلو قصة قصيرة جدًا من هذه التقنية، سواء أكانت مفارقة درامية أو لفظية أو مكشوفة، ومن أمثلتها، ما جاء في قصة «جثة» من مجموعة «بعد خراب الحافلة» لسعود قبيلات تقوم المفارقة على الحدث الدرامي، يقول: «مشى الرجل طويلاً ؛ وبينما هو ينقل خطواته مات، غير أنه لم يفطن لموته، كما أنه لم يعرف كيف يأوي إلى قبره، وأخذت جثته تتحلل، فلم يعرف ماذا يفعل بها، فحملها وواصل المشي، عندئذٍ مات مرةً أخرى، وأمعن في الموت، بينما هو لا يزال يواصل المشي»(ص71).
إن قصة قبيلات هذه قائمة على مفارقات مضادة في الحدث، فهي أشبه بعلاقة النوم بالأحلام؛ بمعنى أن كل نص سواء كان قائما على الشعور أو اللاشعور (حلم، كابوس، هذيان) فهو ينبئ عن مفارقة ما، فقصة «جثة» تظهر المفارقة في الحياة والموت اللتان همان مرادفتان للاختناق والأزمة، والعلم بالموت ومعرفته نقيض الجهل بآلية اللجوء إلى القبر. فإن القصة القصيرة جدًا عند قبيلات تتكئ على أبعاد المفارقات المتنوعة القائمة على توظيف عناصر اللاشعور الإنساني، فالمفارقة عنده عبارة عن منظومة من المفارقات السردية المتشكلة من السخرية، والترميز والأسطورة والهذيان.
ومن القاصين الذين وظفوا المفارقة القائمة على الحدث «جلنار زين» إذا لجأت إلى عالم اللاشعور، ومنحت قصصها دفعة شعرية مغرقة بالمتناقضات المتضادة، ففي قصة «كابوس» تصل القاصة إلى جعل عالمها السردي يمتلئ بمفارقات حسية تعتمد فيه على نظام الاسترجاع، تقول: «نهض من نومه مفزوعا.. كان كابوسا جميلا! رأى نفسه في بيته ينهل من طعامه الطيب ويمتطي فوق فراشه الوثير، ممتعا ناظريه بمرأى زوجته الوادعة.. تعوذ بالله من الشيطان، وعاد إلى توسد صاروخ لم ينفجر، متدثرا بفستان ينزّ دما»(ص34).
تقوم هذه القصة من بدايتها على تقنية المفارقة فجعل منها عالمًا فوضويًا في نهايتها، فالتناقض الذي أحدثته القاصة في قولها «كان كابوسًا جميلًا» دفع بالنص نحو تفسير الكابوس تفسيرًا لا منطقيًا يتناقض مع الوصف الشعري، فكيف يكون الكابوس جميلًا بينما الرجل يتعوذ منه؟! وكيف يكون «الطعام الطيب، والفراش الوثير، والزوجة الوادعة مقابل «الصاروخ الذي لم ينفجر، والفستان المليء بالدم» هذا التشويش الذي أحدثته المتناقضات منحت النص مفارقات مختلفة، فالمفارقة كما يشير إليها أحمد الحسين «هي نتيجة لتوفر بعض الأمور من مثل التضاد والثنائيات اللغوية المفارقة، ومقارنة بين حالتين يقدمهما الكاتب من تضاد واختلاف وجهات النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلنا، بل يمكن أن يستشف من النص، وهذه الثنائيات هي بصورة ما معطى لغوي حمل دلالات في الموقف والمضمون؛ لذا فإن هذه الثنائيات قد تضحكنا من جهة لكنها تفرز في جدران أرواحنا تحريضا من جهة أخرى» (ص42).
ومن أنواع المفارقات التي حفلت بها القصة القصيرة جدًا في الأردن المفارقة الساخرة، وهي جزء من المفارقة اللفظية التي تعد كما قال عنها جاسم خلف إلياس: «نمطًا علاميًا أو طريقة من طرائق التعبير، يكون المعنى المقصود فيها مخالفًا للمعنى الظاهر، وينشأ هذا النمط من كون الدال يؤدي مدلولين متناقضين، الأول مدلول حرفي ظاهر، والثاني مدلول سياقي خفي، وهنا تقترب المفارقة من الاستعارة أو المجاز وكلاهما في الواقع بنية ذات دلالات ثنائية. ومن أنماطها الفرعية مفارقة السخرية»(ص157).
ومن أمثلة هذا النمط في القصة الأردنية القصيرة جدًا قصة «جوع» لسمير الشريف في مجموعته «مرايا الليل»: «للشهر الرابع لم يتذوق أطفالي طعم اللحم، أقف أمام الجزار أضم قبضتي على قروشي القليلة، للمرة الأخيرة أمسكتْ بي نظراته متلبسا بحيرتي، قبل أن أمتطي سرج شجاعتي، وأطعنه بسؤال: أحتاج عظمات للكلاب في بيتي»(ص55).
أحدثت المفارقة في هذه القصة سخرية مضادة، فعلى الرغم من سير الأحداث بتسلسل وتناسق متناغم مع طبيعة الفكرة التي يميل النص إليها، إلا أن القاص فاجئ المتلقي بمفارقة ساخرة، أراد من خلالها التعبير عن حجم المعاناة الاجتماعية التي تعيشها الطبقات الفقيرة، فالمفارقة الساخر تقنية تستطيع أن تمنح النص لغة خاصة قائمة على جزئيات لفظية، أو صورة تكثيفية، هدفها حمل كثير من الانتقادات، لا سيما وأن المفارقة الساخرة في رأي أحمد الحسين: «قد تقول الشيء وتريد ضده، وهذا يرتبط إلى حد كبير بالسياق، والسخرية جرأة على الواقع وأحيانًا تعبّر عن عدم التطابق بين المأمول والواقع، وقد تنتج عن تباين الأساليب والرؤى، وأحيانًا يكون الشغل على الشخصية فقد تأخذ بعض الحالات الغريبة التي تجعلها أكثر اقترابًا من الواقع»(ص47-48).
وقد تأتي المفارقة من خلال كسر أفق توقع المتلقي بين عنوان القصة ومضمونها، وكذلك من خلال النهايات غير المتوقعة. وهذا ما نلاحظه مثلًا في قصة (بنت الحرام) للقاص جمعة شنب فهي قصة ذات نزوع رمزي تتمركز دلالاتها العميقة في رفض الواقع الاجتماعي القائم على الغدر والخيانة، والفساد والنهب والسلب، وحب الذات والتسلط، فقد وصف القاص (النملة شديدة الحمرة) ببنت الحرام لأنها خانت وخدعت مجموعتها، وتعالت وفضّلت حب الذات على حب الآخرين، فالمفارقة التي أحدثها القاص هي مخالفة طبيعة العلاقات داخل بيت النمل التي تقوم في أساسها على الإيثار وحب الآخرين، فالفرد يعمل لصالح المجموعة، وما هي إلا نموذج للصورة الطبيعية للبشرية القائمة على الاستغلالية وحب التسلط والعمل من أجل المصلحة الشخصية بعيدًا عن النظر إلى أهمية مصالح الآخرين. لقد أراد القاص من القارئ أن يبحث في غموض القصة ولطف الإشارة عن هذه الفكرة من خلال إيجاد عنصر المفارقة والإدهاش.
والمفارقة تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في مسار يكون مخالفًا للنهاية المقصودة، فقد يلجأ إليها القاصيين لنسج نهايات يمكن تسميتها بخيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع؛ وهو الذي يكسر به توقع القارئ الذي كان ينتظر أن يجد ما يتوقعه من الكلام بناء على المقدمات السياقية، ولكنه يتفاجأ بنتيجة أخرى تناقض توقعاته، فيزيد من تفاعله ومن كثافة المغزى.
ومن أمثلتها «قصة احتفالية» من مجموعة «أربعون رصاصة تكفي» لرامي الجنيدي، يقول: «في يوم الشجرة العالمي، أقامت الجهات المنظمة احتفالا كبيرًا باقتلاع آخر شجرة زيتون معمرة»(ص70)، فعلى الرغم من قصر الجملة القصصية في هذه القصة إلا أن النهاية ألفت صدمة ومفاجأة للمتلقي، إذ خالف الحدث بشكل مغاير توقعات القارئ، فالاحتفال في يوم الشجرة يكون بزراعة الأشجار لا اقتلاعها، كذلك أضافت عبارة شجرة الزيتون المعمرة متخيلًا شعريًا جعل القارئ يتساءل لماذا اختار القاص شجرة الزيتون؟ وربما تكون الإجابة أن شجرة الزيتون رمز للطهارة والمباركة والسلام والهدوء والطمأنينة، وأن اقتلاعها يرمز إلى مضادات هذه التأويلات.
كما لجأ قبيلات في معظم قصصه في مجموعة «بعد خراب الحافلة» إلى مفارقة خيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع، التي تنتهي بحدث واحد مغاير للأحداث رغم تعدد الأحداث في القصة، ومن ذلك قصة (رفقة): «صعدا إلى الحافلة معا، وجلسا في مقعد واحد ، غير أن المقعد سرعان ما انقسم إلى نصفين، والحافلة إلى اثنتين.. سارت كل منهما في اتجاه؛ حاملة أحد الراكبين»(ص65) فأحداثها متعددة، مبنية على الجمل القصيرة، ذات الإيقاع السريع، فضلا عن ترتيب في الأحداث مثل الصعود، والجلوس، والانقسام، إلا أن المفارقة حدثت في انقسام الحافلة إلى اثنتين، ثم جاءت المفاجأة أو النهاية في المصير المحتوم الذي حدث نتيجة ما يبدو أنه حادث قوي فصل الأصدقاء عن بعضهم البعض.
وفي نهايات قصص مجموعة محمد عبد الكريم الزيود (وحيدًا كوتر ربابة) لجأ لهذه المفارقة فمثلًا في نهاية قصة المنتصف وأشياء أخرى خالفت ترقب القارئ وكسرت أفق توقعاته كلها، لم يخطر بذهن القارئ أن الفتاة سترسل رسالة وتقول له أنها بانتظاره في قاعة القادمين، فهي خلال القصة لم ترد عليه ولو بكلمة واحدة. وفي قصة فنجان قهوة، نرى أن النهاية كمثيلاتها لجأ فيها إلى كسر أفق التوقع، وذهب الزوج لإعداد فنجان القهوة، الذي طالما حلم أن يكون من إعداد زوجته التي فعل الكثير لها.
إذًا المفارقة تقنية مهمة في تفعيل حركة السرد في القصة القصيرة جدًا، ومن مقوماتها التركيز على جملة من المتناقضات والأضداد؛ لتخلق في النص تنافرًا وتعاكسًا بين الواقع والمتخيل، وتعتمد على خرق المتوقع وكسر أفقه.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :