-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 08-04-2024 09:57 AM     عدد المشاهدات 45    | عدد التعليقات 0

العمر الشعري

الهاشمية نيوز - د. محمد عبدالله القواسمة
من المعروف أن الشاعر لا يولد شاعرًا، فلا بد من الموهبة، ثم الصقل، والإعداد والجهد وغيرها من الأمور التي تساهم في إبراز الموهبة وتحقيقها، وقد تشارك العائلة والمجتمع في ذلك. وعندما يبدأ الشاعر الموعود بقول الشعر نقول بدأ عمره الشعري. ونقصد بالعمر الشعري المدة الزمنية، التي بدأ فيها الشاعر بنظم الشعر حتى توقف عن ذلك، أو تردى شعره دون النظر إلى عمره الزمني؛ فقد ينتهي العمر الشعري للشاعر قبل موته.
وفي الغالب يبدأ الشاعر عمره الشعري بالحب والغزل، والفهم المثالي للحياة والناس. هكذا بدأ الشعراء عشاقًا ورومانسيين في أشعارهم، كما نلاحظ، على سبيل المثال، محمود درويش في ديوانه» عصافير بلا أجنحة» 1960م، وسعدي يوسف في «القرصان» 1952م، ونزار قباني في ديوانه «قالت لي السمراء» 1944م؛ ذلك أن الشاعر إبان الشباب يكون متقد العاطفة، متوهج الوجدان، شديد الحب للحياة والطبيعة، ممتلئًا بالأحلام والطموحات، وهي صفات تتلاءم وطبيعة الشعر.
وما إن يبلغ الشاعر العشرين في الغالب حتى ينتقل إلى مستوى عال من النضج وفهم الحياة، فيغدو شاعرًا مشهورًا. ويمكن التمثيل على ذلك بالشعراء السابقين. وقدم الشاعر الفرنسي رامبو مثالًا على أن العمر الشعري قد يبدأ قبل العشرين، فقد أبدع الشعر في التاسعة عشرة.
على كل حال في مرحلة البداية، التي أطلق عليها مرحلة توهج العمر الشعري يتوزع الشعراء إلى مدارس ومذاهب، ويتبنون أساليب مختلفة، ويستخدمون تقنيات متعددة حسب كل شاعر، وتستمر هذه المرحلة حتى سن الأربعين مع مراعاة الاختلاف بين الشعراء فقد تزيد أو تنقص. وبعد الأربعين وما حولها يبدأ العمر الشعري غالبًا بالانحسار، وتضعف الملكة الشعرية، ويقل الحماس الوجداني، وتخبو العاطفة.
ويختلف الشعراء في التعامل مع هذه الحالة: فمنهم من يتوقف عن الشعر، وينتهي عمره الشعري، ويتحول إلى أجناس كتابية أخرى، مثل النقد أو الرواية، مثل إحسان عباس وإبراهيم نصرالله، ومنهم من يتوقف عمره الشعري، ولكن يصر على الاستمرار في قول الشعر حتى يظل معروفًا على الساحة الشعرية، أو ربما لا يدرك ما حل بعمره الشعري من خراب، وهذا ما نجده عند كثير من الشعراء في نهاية عمرهم الزمني. لعل أكثر من يتوقف عمرهم الشعري يتجهون إلى كتابة الرواية. فإذا كان الشعر يعتمد على الوزن والقافية، وتلائمه العاطفة المتدفقة، والأحلام الرومانسية، والصور البديعة فإن الرواية تعتمد النثر، ويلائمها التفاصيل، والفكر الخصب، والاهتمام بالعقل والمنطق والثراء المعرفي وغير ذلك.
إن أعذب ما قاله الشعراء من شعر إنما قالوه وهم في سن مبكرة غالبًا بين العشرين والأربعين، أما ما قالوه بعد ذلك أي بعد نهاية عمرهم الشعري فهو «في الغالب» إما ضعيف، وإما غارق في النثرية لا يعتد به، وإما شعر تعليمي ووعظي، وإما خطابي حماسي. مثلما نجد ذلك، على سبيل المثال، عند عز الدين المناصرة، وسعدي يوسف؛ فقد انتهى عمر المناصرة الشعري عند صدور ديوانه الأخير «لا سقف للسماء» 2009 فهو في ضعف ظاهر لم نجده في دواوينه الأخرى، مثل:» يا عنب الخليل» 1968، «لا أثق بطائر الوقواق» 2000م، فأين الشعرية في قوله: «يا دولة الخازوق/ يا قتّالة الشعراء/ يا سرّاقة الحنّاء، والأضواء، والأزياء/ والأجداد، والأبناء، والآباء، والأشياء/ والموّال، والرايات، والخرجات، والمالوف/ يا دولة الخازوق/ يا سرّاقة الإبريز، والإفريز، والتطريز/ والليمون، والتفاح، والحنّون، والنارنج/ والأحجار، والتاريخ، والآهات، حتى (الأوف)».
أما الشاعر العراقي سعدي يوسف، فمع أنه لمع في دواوينه التي نظمها في ستينيات القرن الماضي، فرأيناه في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته يرتمي في أحضان النثر، فابتعد عن الصورة والاستعارة، ولجأ إلى التفاصيل واستخدام المفارقة التي هي من ميزات السرد، وبخاصة القصة القصيرة، وكان ذلك بتأثير ترجمته لمختارات من شعر الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس بعنوان» إيماءات» 1979م. مثلما تجلى ذلك في مجموعاته: «مريم تأتي» 1983م، و»قصائد ساذجة» 1996م، و»الأخضر بن يوسف ومشاغله» 1972م وقصيدة الأخضر بن يوسف .. قصيدة طويلة تتوافر فيهما عناصر القص من شخصيات، ومكان، وزمان، وراو وغيرها. نقرأ منها: /نبي يقاسمني شقتي/ يسكن الغرفة المستطيلة/ وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب/ وسر الليالي الطويلة/ وحين يجالسني/ وهو يبحث عن موضع الكوب في المائدة/ ـ وكانت فرنسية من زجاج ومعدن ـ/ أرى حول عينيه دائرتين من الزرقة الكامدة/ وكانت ملابسنا في الخزانة واحدة/ كان يلبس يومًا قميصي/ وألبس يومًا قميصه/ ولكنه حين يحتد.../ يرفض أن يلبس غير برنسه الصوف.../ يرفضني دفعة واحدة...».
والخلاصة، إن ما ذكرناه عن العمر الشعري لا يمكن تعميمه على الشعراء جميعًا؛ فتوجد دائمًا تجاوزات واختلافات بين شاعر وآخر. لكن ما نريد قوله إن للشعر عمرًا ينتهي إليه، وإذا أدركه الشاعر فلماذا يستمر في إبداعه؟ إن الشاعر الذي يصل إلى مرحلة النهاية يحسن به أن يتحول إلى صناعة أخرى غير الشعر؛ ذلك أجدى من أن يضيف إلى سجله الإبداعي دواوين ضعيفة، وقصائد هزيلة تبهت تاريخه الشعري، وتقلل من قيمته الفنية، وتأثيره في الحياة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :