-

كتابنا

تاريخ النشر - 28-03-2023 10:20 AM     عدد المشاهدات 116    | عدد التعليقات 0

اضطراباتُ الكلام في تُراثنا الصَوْتي

الهاشمية نيوز - إبراهيم خليل
عني اللغويون العرب قديما بأصوات اللغة العربية. يعزى ذلك بالطبع لما يوجبه القرآن الكريم من عناية بتلاوته وإقرائه وتجويده. وفي هذا الصدد يقول روبنز Robins في كتابه» موجز تاريخ علم اللغة»: إن علم الأصوات نشأ ونما وترعرع في حضني لغتين مقدستين، هما: السنسكريتية والعربية (ص169، ص170، ص171). ولا ريب في أنه يعني بهذا حرص المسلمين الأوائل، بمن فيهم من لغويين وقرّاء، على وضع قواعد ومعايير تضمن سلامة القراءة من اللحن، مع سلاسة الأداء، والتنغيم، في التلاوة، وتدوين ما يمكن من الأحكام التي تضْبط القراءة الجيّدة على نهج السلف.
وقد أبدى الخليل بن أحمد(175هـ) وتلاميذه مثل هذا الاهتمام بالأصوات. وفي مقدمتهم سيبويه (180هـ) الذي يتمتع بسليقة فارسية نبّهته لما في العربية من فروق نطقية تختص بها، وتختلف عن سائر اللغات، مما لا يتنبه له العربي الذي نشأ على اللغة نشأة فطرية، فلا تسترعي اهتمامه نظرا لاعتياده لها. وهذا ما أوحى له بمقارنة أصوات الهجاء العربية بمثيلاتها في الفارسية. فيذكر مثلا أن بعضهم يلفظ القاف مثلما تلفظ الكاف الفارسية. ونبه على ما يعتري أصوات الذلاقة، وهي اللام والراء والنون، من تبدلات نطقية، فالأنفي منها يكون شفويا تارة، وجانبيا منحرفا تارة، والجانبي منها قد يغدو أنفيا فيه غنة. والمهموس في مثل مصدق قد يصبح مجهورا. وهذا كله مما يُعرف بتقارب الصوتين ليصبح النطقُ من وجه واحد لا من وجهين (1).
اضطرابات:
واطَّردت هذه الملاحظ عند غير اللغوين. فالجاحظ المتوفى سنة 255هـ يذكر في « البيان والتبيين « شيئا غير يسير عن مخارج الأصوات، وعما يطرأ عليها من انحراف هو أقرب إلى اللثغة منه إلى أي شيء آخر. فقد سمع من يقول بثم الله، بدلا من بسم الله. وطال لي، بدلا من قال لي. و جمي، بدلا من جمل. وبعض المتكلمين بالعربية يجعلون الراء المتكررة لاما، فيقول ثولا، بدلا من ثور، وسولا بدلا من سور. على أن قلة من الناس تلفظها غينا. وهي لثغة مسْتَشْنعة في رأيه، أصيب بها واصل بن عطاء(131هـ) أحد أئمة المعتزلة. فكان يتحاشى الراء في كلامه لما تسببه تلك اللثغة من حرَج فيستبدل اليم بالبحر، والمشنَّف بالمرعَّث، والعقيلي ببشار، والغيث بالمطر. وعلى الرغم من أن الجاحظ لا يُعدّ في اللغويين، فقد تطرق للأصوات الشفوية، وهي الميم والباء. فوصف كيفية اللفظ بإغلاق الفم بالشفتين. وأضاف أنّ هذين الصوتين هما أول ما ينطق به الأطفال (البيان 1/ 62) وعن الضاد ذكر أنّ مخرجها بعيدٌ من ذلك، إذ تلفظ - في رأيه - من الشدق الأيمن.
وهذه الملاحِظُ تتكـرّر لدى غير واحد. وإن كان من المشكوك فيه أن تكون دقيقة؛ لأن الضاد في رأينا دالٌ طبقية، ومخرجُها من طرف اللسان، ومقدمة الحنك، أي اللثة العليا. ولهذا نجد الأعاجم الذين تخلو لغاتُهم من الأصوات الطبقية يلثغون بالضاد، فيجعلونها دالا، لأنّها أقرب الأصوات مخرجًا من الضاد. فيقولون (دلال) بدلا من ضلال، و(درب) بدلا من ضرب. علاوةً على هذا فإن أحدا من اللغوين لا يذكر ما ذكره الجاحظ من أن الشدق، أيمن، أو أيسر، من مخارج الأصوات. وإن ذكروا الحنك بأقسامه الثلاثة: اللين والصلب والأمامي.
وللجاحظ ملاحظاتٌ أخْرى عن الأصوات الحلقية. فالأعاجم يجدون صعوبةً في نطق العين، لذا يلفظونها كالهمزة. وكذلك الحاء، يلفظونها كالهاء، فيقولون همار وهش، لا حمار وحش. وبعضهم يجعل الجيم زايا فيقول للجزَر زَزَرا، وبعضُهم يلفظ الشين سينا، فيقول للشَجر: سجرًا. ومنهم من يجعل الجيم زايا ولا سيما السنديّ، يقول: « إذا جُلب السنديُّ للعربية كبيرا لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا، ولو أقام في عُليا تميم خمسين سنة. كذلك النبَطيّ لا يستطيع إلا أن يلفظ الزاي سينا، فإن أراد أن يقول (زوْرق) جاءاللفظ على لسانه سوْرق «
وسبب عناية الجاحظ بالأصوات، وباضطرابات الكلام، اعتقاده بأن الصوت هو الأولى عنايةً في البيان، وخلاف ذلك يؤدي إلى اللبس الذي يفضي إلى العِيّ. فالذي لا يتقنُ أداءَ الأصوات من مخارجها الصحيحة بدقة، لا يستطيع الإبانة عما في نفسه بفصاحة، وطلاقة، وحُسْن بيان. وأشدُّ العيوب ضررًا في البيان، وخطرًا الخرَسُ، الذي تختفي معه الفروق بين الإنسان والحيوان. وأقلّ من ذلك أن يعاني المتكلم من (العُقلة) وهي عدم القدرة على النطق بسلاسة، وفي نسق زمني طبيعي، لا يشكو من تباطؤ، ولا من تسرُّع. ويبدو الأعقلُ كأنه يقتلع الكلام من جوفه، كالذي عُقل لسانه، وَرُبط برباط يمنعه من الحركة الطبيعية إلا بتكلّف شديد.(1/ 62 ) وتطرَّق للحبْسَة Aphasia وهي أن يكون في لسان المتكلم حُكْلة، أي تضخُّمٌ في عضلة اللسان تورثُ هذا الشخص التباطؤَ في النطق مع اللثغة. وقد وصف هذه الظاهرة بالحكلة أيضا(1/ 325) وتطرّق لعقْدة اللسان، وهي شيءٌ كالحبسة التي شكا منها موسى عليه الصلاة والسلام: (واحْلُلْ عقدَةً منْ لساني، يفقهوا قولي- طه: 27).
ونَسَب إلى الأصمعيّ (210هـ) قوله: إن بعض المتكلمين بالعربية يكرّر التاء عندما يبدأ بها الكلام، وتسمى هذه اللثغة (تعتعة). وإذا وقع التكرار في الفاء، فهي فأفأة. (1/37) والتمتمة هي التردُّدُ في نطق الثاء. ويقال لمن يقع في مثل هذا تمتامًا. ومن العيوب التي تطرق لها العَجَلة. فبعض المتكلمين يتوالى نطقُه لأصوات الكلمات بسرعة تفوقُ المعدل الطبيعي. وهو لا يقدر على تقليل تلك السرعة، فكأنّها ضغوطٌ نفسيةٌ أو عضوية لا يستطيع منها فكاكا. (1/39)
ومن عيوب النُطق- عدا ما سبق – الغمغمة، وعَصْبُ الريق- أيْ عَصْره- من حين لآخر. واللفَفُ وهو دخول الكلام بعضه ببعض. واللجلجة وهي ضعف الاسترسال في الكلام، وكثرة الاضطراب فيه. والخطيب اللجلاج هو الذي يُضْجر جمهورَه. وبصورة عفوية اهتدى الجاحظ لما يعرف باللكنة، وهي البصمة الصوتية التي تطبع بها ملفوظات لهجية، أو أصوات الأعجمي الذي يتكلم العربية. فمن صوته يُعرف أنه أعجمي، وكذلك يُعرف البصري من صوته، والأهوازيّ، والخراسانيّ، وما يختلف به كلٌ من هؤلاء عن الأعرابي.
اللثغة:
وقد صنَّف أبويعقوب يوسف بن إسحق الكندي المعاصر للجاحظ رسالة في اللثغة (252هـ) ( ط1، تحقيق محمد الطيان، دمشق، مجمع اللغة العربية، 1985 ) تعدُّ من المراجع الأساسية لمبحث اضطرابات الكلام. فتناول هو الآخر العيوب الناجمة عن بعض أعضاء النطق كاتساع المنْخرين اتساعا كبيرًا، وتضخُّم عضلة اللسان تضخُّمًا يعيق الحركة الطبيعية المرنة في جلّ الاتجاهات، مما يورث اللكنة الغريبة المستهجنة تارة، وتارة اللثغة. وقد وصف الأصواتَ وصفاً دقيقا، أو شِبْه دقيق، ومن أمثلة ذلك ما جاء لديه عن السين، بقوله: ضرورة اقتراب طرف اللسان من مقاديم الأسْنان، وإخراج النفَس من بين الأسنان إخراجا خفيا يسيرًا. وهذًا ما تؤكده الدراسات المعاصرة؛ فالسين عند إبراهيم أنيس صوت أسَليٌ أسنانيٌ مهموسٌ (خفيٌ) وصفيريٌ نتيجة تسرُّب الزفير من بين الأسنان (الأصوات اللغوية، ص 108).
وقد عرَّف الكندي اللثغة، فهي تَعسُّرُ النطق بالصوت الهجائي نطقا سليًما فيصدر من غير مخرجه الطبيعي. وذلك إما لتغيُّر طرأ على عضو النطق كالتضخّم، أو التقلّص، أو التشنُّج، وإما لأسباب لصيقة بالاكتساب. واللثغة تنتشرُ بين الصغار، وقد تكون لدى الكبار. أما الحروفُ التي تقع فيها اللثغة، فكثيرةٌ، يبلغ عددها أربعة عشرحرفا، أي نصف أصوات الهجاء. وذكر أن بعضهم يلثغ في العين فيلفظها كالهمزة، فإذا أراد أن يلفظ اسم علي يقول: ألي. ومنها السين التي يلفظونها ثاء (بثم الله) والشين التي تتعاقب عليها السين والزاي. ومنها الكاف التي يقترب بها الألثغ من الشين. والجيم التي يلثغون بها فيلفظونها ياءً، أو دالا. وهكذا تعترض هذه الاضطراباتُ كلا من الصاد، والحاء، والراء، والقاف، والزاي. و رأيه الخاصّ في لثغة الراء عند القلة ممن يجعلونها غينًا أن هذا من أثر المناغاة. فالألثغ بالغين احتفظ بهذه النغمة للراء من مرحلة ما قبل الكلام، فظل يلفُظها كما كانَ يلفظ الغينَ منَ الحلق.
والوقوف عند اللثغة، واضطرابات الكلام، سببه شغف الكندي بالعربية، وما فيها من حلاوة الجرْس. وتلك الاضطرابات في الصوت إنما هي تشويهٌ، أو تحريفٌ، يشوبُ المتكلمين، لا العربية، التي هي في رأيه « ليست ثمة لغة أفصح، ولا أعذب، ولا أخفّ، من اللغة العربية « (ص523)
اللسان والحنجرة:
أما أبو بكر الرازي (313هـ) وهو كالكندي من الأطبّاء، فقد تتبع ما يعرض لأعضاء النطق من اضطراب؛ كالعُقدة في طرف اللسان من الأسفل، وما يحدث في الحنجرة من أوضاع تغدو فيها غير قادرة على التحرك الطبيعي عند النطق، فتصدر الأصوات ناشزة غير معتادة (الحاوي في الطب، 3/ 157) وكـرّر رأي الكندي في أن تضخم عضلة اللسان تؤدي إلى اللثغة، واضطرابات شديدة في النطق قد تفضي إلى الخرَس. فصاحب اللسان العظيم لا يستطيع إخراج الحرف، ولا يرسلُ لسانه إرسالا جيدًا. ولم تفتْه الإشارة إلى ما يعتري القصبة الهوائية من أوضاع غير طبيعية، وتأثير ذلك في الصوت. فخشونة قصبة الرئة تؤدي إلى البحّة، وقد يؤدي ذلك في بعض الأحيان لضعف في الحنجرة، أو العَصَب السمعي.
ابن سينا:
وعلى هذا المنوال توقَّف ابن سينا (428هـ) في كتابه « القانون في الطب « وفي « رسالة في أسباب حدوث الخروف « إزاء بعض الاضطرابات، التي عزا بعضها لما يعتورُ اللسان من تشنج، أو تمدد، أو تصلبٍ، أو استرخاء، أو قِصَرٍ، أو تعقّدٍ ناتج عن جراحةٍ التأمَتْ، أو وَرَم صلب (القانون في الطب، بيروت: 1999 جـ 2 ص 156 ). وبعض الاضطراب قد يكون راجعا لتمدد أو استرخاء في الحنجرة. والحبسة في رأيه كالتمتمة سببها في اللسان لا غير. والتمتمة مثلما جاء في تهذيب الأزهري هي الخطأ في نطق الصوت، ورده إلى صوت آخر. وهذا غالبا ما يقع في التاء.(تهذيب اللغة، جـ1، مادة تمم، ص454).وكرّر ابن فارس(395هـ) في غير موضع من كتابه « الصاحبي « ما ذكره سابقوه، ومن عاصروه. وأضاف الثعالبي(429هـ) في « فقه اللغة « لثغة عزاها لما يسمى الفقمة، وهي سقوط بعض الأسنان من الرباعيّتين. فالذي يقال له أفقم لا يمكنه أن يلفظ الأصوات س، ز، ص، لأن مجرى الزفير يظل مشرعًا فلا يضيق مثلما يجب. وهذا ينسحب – في رأينا على الأعْلم، والأفلح، وهو صاحب الشفة الأرنبية، الذي يقال له الأشرم. لأنه لا يستطيعُ حبس النفس بالشفتين، فلا تصح مع ذلك الميم، فتلفظ في هذه الحال نونا أنفيه، فعوضًا عن قوله لامَ، يقول: لانَ.
اشتراط التجويد:
وقد أضاف القرطبي (671هـ) لما ُذكر عيوبًا تتجلى في السمات السمعية للأصوات، أو الفيزيائية، فبعض المتكلمين يلفظ التاء مجهورة وهي غير مجهورة، وبعضهم يلفظ الثاء شديدة، وهي رخوة، على خلاف الدال الشديدة (الاحتباسية) يلفظونها رخوة، وبعضهم يلفظ الذال المجهورة مهموسة كالسين، وبعضهم يبقي عليها مجهورة لكنه يلفظها من أسلة اللسان ومقاديم الأسنان، فبدلا من كذاب، يقول كزاب. وهذه عيوب نهى عنها القرطبي في كتابه «الموضَّح في التجويد» على الرغم من قراءة بعضهم (الآية 18) من سورة يوسف (وجاءوا على قميصه بدم كزبٍ) وهي قراءة شاذة. وأشار إلى بعض الظواهر التي تُنسب إلى التطريز الصوتي كالتطريب. وعدَّ المبالغة فيه ضربا من التشويه الذي لا يسوغ في القرآن. ومن ذلك الترقيص والترعيد وتليين الصوت مع إخفاء الغنة (الموضح: 124 – 125) ولا تخلو مصنفات علماء التجويد من إضافات تؤكّد أن الاضطرابات النطقية، وأمراض الكلام، لم تعزُب عن أذهان اللغويين، ولا عن أذهان الصرفيين، والنحاة، وعلماء الكلام، والحكماء، والأطباء، ومؤلفي المعاجم، من أمثال: الخليل، والأزهري، وابن سيدة، ولا فقهاء اللسان، من أمثال ابن فارس، والثعالبي.
وجهودهم في ذلك حظيتْ بإعجاب أهل النظر من المحدثين الغربيين، والعرب المتأثرين بالمدارس الصوتية الجديدة. وهذا يدْعو لإعادة النظر فيما كتبوه، وفيما نشروه، لعل في الوقت منْفسحًا من الزمن نستطيع به أن نضيف جديدًا لما قيل، وزيادة ترفِدُ هذا العلم الأصيل، بما هو نافع وجليل.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :