-

كتابنا

تاريخ النشر - 20-12-2020 01:16 PM     عدد المشاهدات 511    | عدد التعليقات 0

جوراسيك جدي

الهاشمية نيوز - موسى إبراهيم أبو رياش
جلس على طرف المقعد مهمومًا متوترًا، واحتسى قليلًا من النسكافيه: ما رأيك بجدي يا زيد؟
استغربت سؤاله: جدك؟! أنا أعرفه رجلًا حكيمًا، عاقلَا، متزنًا، يشهد الجميع بحسن خلقه وسيرته وخبرته.
- وهذا ما يُحيرني يا صديقي... ولكن، يبدو أنني سأعيد النظر في كل ذلك.
لم أفهم ما يقصد: خيرًا يا ريان؟؟ ما الذي استجد؟؟
- سأخبرك بكل شيء، ولكن عِدني أن يبقى كل شيء سرًا بيننا، فلا أُحب أن أُسيء إلى جدي مهما حدث.
وعدته بذلك، وطلبت منه أن يحدثني بما يشغله ويثقل صدره.
تنهد بعمق، وعدَّل جلسته على المقعد، وقال: عصر اليوم، أخذني جدي في زيارة لمنطقة «السخنة» شمال مدينة «الزرقاء»، وجلست وإياه على تلة صغيرة أخبرني أنها تُعرف بتلة «يوسفيك»، وسألني: انظر أمامك، وحولك، ماذا ترى؟ فتلفت فلم أجد شيئًا يُذكر، وقلت: سيل بائس تجري فيه مياه عادمة، وأشجار معدودة تشكو الحرمان، وإلى الشرق حي سكني، وإلى الشمال جسر يربط بين منطقتي «السخنة» و«دوقرة» ، وتليه بعض المزارع الشاحبة، وشارع يُوصل إلى منطقة «القنية».
هزَّ جدي رأسه بأسى وحزن، وقال: كانت هذه المنطقة قبل نصف قرن ملء السمع والبصر؛ خضرة وجمالًا وماء عذبًا وأسماكًا وفيرة وحياة لا تهدأ. فركت عيني، وأعدت النظر حولي، وقلت: لعلك تقصد منطقة أخرى يا جدي؟ فهزَّ رأسه بعنف، وقال: لا، لا ، لم أُخرِّف بعد، فأنا أذكر كل شيء، كأنني أراه رأي العين. أعرف أني جدي أقام في «السخنة» ثلاثين عامًا تقريبًا، فقلت لأخفف عنه وأواسيه، ويا ليتني لم أفعل: حدثني يا جدي، أخبرني عن هذه المنطقة كما تذكرها.
ابتسم بحزن، وقال: كان هذا السيل يجري بماء نظيف سائغًا للشاربين، يمتلأ بالأسماك، وعلى جانبيه مئات العيون وجنات من المزارع والأشجار، وهناك مقابل محطة المحروقات تقع «عين السخنة» التي كانت تروي «السخنة»ومخيمها وبلدة «الهاشمية» بماء الشرب، ويتدفق ماؤها غزيرًا إلى السيل. كان الناس يا جدي يصطادون الأسماك بأيديهم، والمحترفون يستخدمون الشباك، وبعضهم –للأسف- يستخدم المتفجرات. كان السمك وفيرًا في متناول الجميع، وثمار الفاكهة والخضار تُباع لرواد المكان الذين يأمونه على مدار الأسبوع، ويفيض بهم أيام الجُمع والعُطل، حتى لا تجد مكانًا تجلس فيه. وكانت أشجار التين والتوت سبيلًا للناس يأكلون منها ولا ينسون طعمها.
كنت أستمع بذهول، كأني أقرأ «ألف ليلة وليلة»، أو أشاهد مسلسل «كان يا مكان»، فكلام جدي محض خيالات أو أحلام عجوز، ولكني آثرت أن أتحمل؛لأرى أين تنتهي أوهامه. أكملَ: في هذا المكان بجانب التلة، كانت تنتشر المقاهي التي تستقبل مرتاديها من «السخنة» وخارجها ليل نهار، وها أنت تراها الآن خرابًا لا حياة فيها، مع أن الأشجار في ذلك الوقت، وخاصة القصيب أو البوص تملأ المكان، وتشكل غابة على طول السيل، الذي يبدأ من «عمان»، وينتهي بـ«الأغوار» مرورًا بــ«الرصيفة» و«الزرقاء» و«جرش».
كان الربيع يا جدي ساحرًا في هذه المنطقة، وعندما أتصور الجنة، تعود بي الذاكرة إلى هذا المكان، بما يفيض به من روعة وفتنة، وراحة نفس،وجوٍّ نقي، وخضرة على مد البصر، وطيور تغرد من كل لون وجنس.
سكت جدي، وقد بدأت أتأكد أنه يُهلوس، وأن للعمر أحكامه، وبعد أن تناول جرعة ماء كبيرة، استأنف حديثه: لا أريد أن أحدثك عن أسباب زوال هذه الجنات ودمارها ونضوب الماء، وتلوث السيل، فهذا حديث يجلب الغم والقهر، ولا يزيدني إلا ألمًا وحسرة، ويُعمِّق من جراحاتي التي لا تلتئم.
فقلت لأخفف عنه: ألف سلامة عليك يا جدي، لا عليك، استرح ولا تتعب نفسك. لكنه أكمل قائلًا: ذات يوم من منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت هذه التلة أشبه بالمدرج،مكتظة بالمتفرجين، الذين حضروا لمتابعة نهاية سباق الضاحية على مستوى مدارس المملكة، حيث أقيم الاحتفال في ساحة كبيرة كانت شرق هذه التلة مباشرة، إذ بدأ السباق من دوار «حي معصوم» قبل أن يصبح دوارًا، كان مهرجانًا رياضيًا جميلًا وحافلًا، وربما كانت سعادة الفائزين بالمكان وجماله أكثر من سعادتهم بالكؤوس والميداليات.
توقف ريان عن الحديث، وأخذ نفسًا عميقًا، وارتشف قليلًا من النسكافيه، فقلت متهكمًا: لم يبق إلا أن يقول لك بوجود التماسيح أيضًا في السيل.
نظر إليّ ريان بدهشة، وقال: لقد فعل يا زيد، لقد قالها والله... فقد زعم، أن الكتب تذكر أن السيل، الذي كان يُعرف من قبل بــ«نهر الزرقاء» كانت تعيش فيه التماسيح قبل قرن أو أكثر، ومن قبل كانت تعيش الأسود والنمور والغزلان وغيرها من الحيوانات والطيور.
لم أصدق ما سمعت، فقلت: يبدو أن جدك متأثر بما يقول عنه نقاد الأدب «الواقعية السحرية». هل يقرأ جدك لـ«ماركيز» و«إيزابيل إلليندي» وغيرهم من كُتاب أمريكا الجنوبية؟
تنهد ريان، وقال: لا يعتب أحد من الكُتاب على جدي، فقد قرأ لكثير من كتاب أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى الروس والإنجليز والفرنسيين والأمريكيين، ولم يوفر الصينيين واليابانيين والكوريين والأفغان والهنود والأتراك، وبالطبع العرب، فهم عظام الرقبة.
فقلت: هكذا إذًا، جدك خلط ما يقرأ بما يشاهد وبما يتوهم، فظن«السخنة»إحدى مناطق «الأمازون»، وربما يوجد منطقة بهذا الاسم هناك.
فقال ريان: أتدري، عندما كنت أسمع جدي، تذكرت فيلم «حديقة الجوراسيك».
فضحكت، وقلت: جدك موهوب يا صديقي، أنصحك أن تأخذوه إلى «هوليود»، ليكتب سلسلة ثانية من أفلام«حديقة الجوراسيك»، فيشتهر وتشتهرون، وربما يضرب معه الحظ، فيكتب أفلامًا أخرى عن الفضاء وأعماق البحار وعالم السحر.




وسوم: #جوراسيك


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :