تاريخ النشر - 13-10-2025 07:18 PM عدد المشاهدات 1 | عدد التعليقات 0
الردع فوق الصوتي والفخ الجيوسياسي: واشنطن تُؤمّم حرب تل أبيب على طهران

الهاشمية نيوز - بقلم الأستاذ الدكتور هاشم الحمامي
مقدمة: انقلاب موازين الردع بالسرعة القصوى:
يتبدّل مشهد الشرق الأوسط بين شفق الحرب وغبار الصواريخ، فيما لا تزال رائحة البارود معلّقة في الأجواء، شاهدة على "حرب الاثني عشر يومًا" التي أعادت رسم خرائط الردع ومعادلات التوازن. تلك المواجهة، التي لم تقتصر على تل أبيب وطهران، بل امتدت لتشمل انخراطًا أمريكيًا ودعمًا غربيًا غير معلن، شكّلت جرس إنذار دوّى في عواصم القرار الاستراتيجي.
لقد كشفت تلك الأيام عن سلاح إيراني قلب الموازين: الصواريخ فرط الصوتية (Hypersonic)، التي تجاوزت سرعتها خمسة أضعاف سرعة الصوت واخترقت حُصون الردع الإسرائيلي. هذا الإنجاز التكنولوجي، الذي جعل اعتراض الصاروخ شبه مستحيل بسبب سرعته الهائلة وقدرته على المناورة داخل الغلاف الجوي، دفع عقارب الساعة نحو سيناريو مواجهةٍ مختلف — أشد خطرًا، وأعمق تركيبًا في توزيع الأدوار بين الحليفين.
من الميدان إلى المعادلة: الجغرافيا كنقطة ضعف قسرية:
تواجه إسرائيل معضلة جغرافية متجذّرة تُشكّل نقطة ضعفها الأخطر في أي حرب شاملة. فالمساحة المحدودة للدولة تجعلها هدفًا حيويًا يمكن إصابته بالكامل في أي رد إيراني، في حين تمنح المساحة الشاسعة لإيران عمقًا استراتيجيًا يسمح لها بامتصاص الضربات وإعادة التموضع.
هذا التباين الجيوسياسي، الذي أظهرته فاعلية الصواريخ الإيرانية الأخيرة، دفع إلى تحوّلٍ واضح في الاستراتيجية الغربية: تحييد إسرائيل كهدف مباشر للرد، وتصدير الحرب إلى مستوى "دولي مؤمّم" بقيادة واشنطن.
في هذا السياق، تتجنب تل أبيب تنفيذ ضرباتٍ مباشرة على المنشآت الإيرانية، تاركةً المهمة للقوات الأمريكية المزودة بقدراتٍ استراتيجية هائلة — خصوصًا قاذفات الشبح B-2 Spirit القادرة على اختراق أعتى الدفاعات وتنفيذ ضربات جراحية ضد المفاعلات النووية المحصّنة. وقد برزت مؤشرات عديدة على تبني هذا المسار، أبرزها:
* التسريبات الروسية التي تحدثت عن رسائل إسرائيلية إلى موسكو تؤكد "عدم نية تل أبيب مهاجمة إيران مجددًا".
* التصريحات النارية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي قال قبيل زيارته للمنطقة: «كان يجب القضاء على الترسانة النووية الإيرانية من المرة الأولى».
* إعادة الانتشار الأمريكي في العراق وسوريا، واستقدام طائرات التزود بالوقود، كلها تشكّل حلقات في سلسلة تحضيرٍ عسكري متكامل لعملية محتملة.
ميزان الردع الجديد: سباق بين الشبح والسرعة:
لا يقتصر السباق على الأرض، بل يمتد إلى السماء الرقمية والتقنية. فبينما تراهن واشنطن على قاذفاتها الشبحيّة القادرة على حمل القنابل الخارقة للتحصينات (Bunker Busters)، تراهن طهران على صواريخها فرط الصوتية التي تفلت من منظومات الدفاع التقليدية مثل "آرو-3" بسبب مناورتها المعقدة داخل الغلاف الجوي وسرعتها التي تفوق قدرات الرصد والاعتراض.
وفي المقابل، يبرز عنصر جديد في المعادلة: الذكاء الاصطناعي العسكري وأنظمة الحرب السيبرانية. لم تعد الحرب بين إسرائيل وإيران حرب صواريخ فقط، بل حرب خوارزميات وسرعات؛ من يسبق إلى "إغلاق الهدف" وتدمير شبكات القيادة والسيطرة هو من يكتب عنوان النصر في الميدان الإلكتروني قبل العسكري.
المتغير الروسي–الصيني: "ردع الصمت" وكلفة الشرعية؛
في خلفية المشهد، تقف موسكو وبكين بموقفٍ معقد يشبه الصمت المحسوب. فروسيا ترى في انشغال واشنطن بحرب جديدة فرصة لتخفيف الضغط في أوكرانيا، بينما تنظر الصين بقلق إلى أي تصعيد يهدد أمن الطاقة العالمي.
هذا الصمت ليس حيادًا، بل شكل جديد من أشكال الردع غير المعلن. إنه يهدف إلى ترك واشنطن تواجه وحدها كلفة التصعيد، دون منحها شرعية دولية سهلة لحرب جديدة في الخليج. وقد يمتد هذا التكتيك ليشمل الامتناع عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرارات مجلس الأمن المتعلقة بفرض عقوبات أو إدانات ضد إيران (لا تفويض الحرب). فالسماح بمرور مثل هذه القرارات يزيد من الضغط على إيران، بينما يضمن في الوقت نفسه أن واشنطن لن تحصل على إجماع دولي قوي، مما يزيد من الكلفة السياسية للعمل العسكري الأحادي عليها.
الفخ الكبير: نقل مشروعية الهجوم من تل أبيب إلى واشنطن:
في جوهر اللعبة، تسعى إسرائيل وواشنطن إلى تنفيذ عملية "تأميم جيوسياسي" للحرب. الفكرة بسيطة في ظاهرها، خطيرة في مضمونها: تحويل الرد الإيراني من تل أبيب إلى واشنطن، ليصبح الصراع بين الولايات المتحدة وإيران بدلًا من إسرائيل وإيران. هذا يمنح إسرائيل هامش أمانٍ نسبيًّا ويتيح لواشنطن مبررًا لشن حربٍ شاملة تحت رواية "الدفاع عن النفس" أو "الدفاع الوقائي".
لكنّ طهران أمام خيارين استراتيجيين لتكسير هذا الفخ:
* الرد المتناظر (المباشر): توجيه صواريخها فرط الصوتية مباشرة نحو العمق الإسرائيلي. هذا الخيار يعيد تل أبيب إلى دائرة النار ويكسر قاعدة التأميم، لكنه يرفع بشدة احتمالية الرد الأمريكي المباشر على طهران.
* الرد اللامتناظر (عبر الوكلاء): تفعيل محور المقاومة في لبنان والعراق واليمن، لتوسيع رقعة المواجهة واستنزاف القوات والمصالح الأمريكية في معارك متعددة الجبهات، مما يرفع الكلفة السياسية والعسكرية على إدارة ترامب.
نجاح إيران في فهم هذا الفخ وتحديد أولويات الرد، سيعيد خلط الأوراق من جديد، ويحوّل الحرب من صراعٍ عسكري إلى حرب ذكاء استراتيجي، تُدار بالعقول قبل الصواريخ.
خاتمة: توازن الردع السياسي والعسكري:
حتى وإن امتلكت الأطراف المتحاربة تكنولوجيا تفوق سرعة الصوت، فإن الحرب تظل في النهاية لعبة شرعية دولية ومشروعية سياسية. إسرائيل تحاول عبر "تأميم الحرب" تجنّب اللوم الدولي، بينما تسعى واشنطن إلى تأطير المعركة ضمن رواية "الدفاع الوقائي".
إنّ التوازن بين الردع العسكري والردع السياسي هو ما سيحسم شكل المرحلة المقبلة. إنّ ما يدور اليوم بين تل أبيب وطهران وواشنطن ليس مجرد صراع فوق الصوت، بل اختبارٌ شامل لمفهوم الردع في عصر تتسارع فيه السرعة أكثر من الحكمة.