-

كتابنا

تاريخ النشر - 07-05-2024 10:04 AM     عدد المشاهدات 65    | عدد التعليقات 0

نرجسية العبيد والعمى المعرفي

الهاشمية نيوز - زياد صالح الزعبي

قال الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم-:
«ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه».
كان أحد الكتاب الذين عاشوا في عصر عرف بعصر الانحطاط يكرر في أثناء كتبه أنه استطاع أن يأتي بما لم يأت به السابقون. والطريف أنه كان يورد مثل هذا القول المنبئ عن عظمة لا يرقى إليها بعد أن يأخذ بيت شعر جميل لأحد الشعراء الكبار وينثره نثراً رديئاً في أغلب الأحيان. وكنت كلما قرأت نصّاً لهذا الكاتب المتعاظم أسأل نفسي: ما الذي يدفعه إلى مثل هذا الإحساس بالتفوق وهو لا يفعل شيئاً سوى أخذ كلام الآخرين وإعادته بصورة قبيحة يستجملها؟ وكان تساؤلي هذا يجد جوابه دائماً فيما يكتب ذلك الكاتب اللوذعي الذي لا يتوقف عن الحديث عن «أناه» سواءً أكانت ضميرا منفصلاً أم تابعاً متصلاً، حاضراً أم غائباً، ولا ينفك يشيد بجليل أفكاره وأعماله ما ظهر منها وما بطن، ولا يتورع عن أن يضع نفسه في كفة الميزان الراجحة والآخرين جميعاً في الكفة الشائلة، ويرى أنه لا يشينه أن يتسول ذكرا أو مكانا أو منصبا مهما كانت وسيلته إلى ذلك.
كل هذا يضع القارئ أمام صورة نرسيس الكاتب الذي لا يبحث فيما يقرأ إلا عن صورة ذاته، والذي لا يتعب من معاينة عظمته الماثلة أو المفقودة، لكنه يستشيط غضباً، لغيابه من النّص المكتوب قبل وجوده، ويعمى عن حقيقة نرسيس الذي لا يوجد إلا حين يتراءى وجوداً غير موجود في الماء. وهذا ما يدفعه إلى إنتاج ذاته في كتابة تنهمك في تشكيل وجود ورمي مضخم لهذه الذات التي لا توجد إلا من خلال الآخر المُداهن أو المشاقق، ولهذا فإن عمليتي القراءة والكتابة- في هذه الحالة- تمثلان سعياً مرّاً لتثبيت صورة نرسيس على صفحة الماء ليبقى له وجوده ومتعته.
الوجود المفترض
إن نرسيس حين يقرأ يبحث في مرآة النص المقروء عن ذاته أو صورته، فإن لم يجدها فلا بدّ له من «مرآة الكتابة» التي يستطيع بها أن يشبع نهمه إلى معاينة ذاته كما يراها وكما يريدها، وهنا يمتلك حرية أن يرسمها وفق مبادئ أيدلوجية «التمركز حول الذات» التي تقطع بأنها تعرف والآخرون لا يعرفون، وأنها صادقة والآخرون كاذبون، وبأنها جميلة والآخرون بشعون، وأنها على حق، والآخرون على باطل، وأنها ذكية والآخرون أغبياء... وفي هذا الإطار تنغلق الذات النرسيسية على نفسها ولا تستطيع بأي حال أن تعاين غير صورتها المشتهاة، ويتحول الوجود الواقع خارجها إلى موضوع تحاول أن تعاين فيه ذاتها لا غير.
إن نرسيس قارئاً أو كاتباً يمثل ظاهرة ثرية متعددة الجوانب والأبعاد في دوائر المؤلفين العرب، وهذا ما دفع الدكتور محمد لطفي اليوسفي إلى تخصيص الجزء الثالث من كتابه الضخم المعنون « فتنة المتخيل» لبحثها تحت عنوان « فضيحة نرسيس وسطوة المؤلف». بحثاً تفصيلياً مسهباً جاء في ثناياه قوله:
« لقد مات نرسيس نتيجة وعيه بأنه واقع في حب صورة، صورته التي حالما يتموج الماء تفقد بهاءها، وتشرع في التشوه. لكن الصورة الحاصلة للــ «أنا» عن نفسها في هذه النصوص [التي قرأها محمد لطفي اليوسفي] مثبته في قلب الخطاب. إنها ثابتة لا يطالها التبديل والتغيير. بل إن رسمها بالكلمات إنما يترجم رغبة منتجها في تخليدها. إنها صورة مشذبة، صورة بهية، صورة مثال. غير أن الحرص على تهذيبها وتحليتها هو ما يجعلها تثقل بالزينة والفخار إلى حد التشوه. فلا تضع المتلقي حين يتملاها في حضرة ما تنطوي عليه من بهاء، بل تضعه في حضرة ما وراءها من تكلف وتصنع وإعلاء مرضي للذات».
إن هذا التوصيف للنرجسية يجسد تشخيصاً للذات الكاتبة المصابة بداء « الإعلاء المرضي للذات»، هذا الداء الذي يعلن عن نفسه بفظاظة حمقاء حيناً، ويستتر وراء أقنعة المعرفة والعلم، واللغة الفنية الماكرة أحياناً، لكنه في كل الأحيان، لا يستطيع أن يخفي وجوهه المجدورة القبيحة التي تعلن عن نفسها بالصورة واللون والرائحة؛ لأن اللغة التي تفصح لا بدَّ أن تفضح أيضاً. فاللغة النرجسية مهما كانت طرائقها وأساليبها لا تقدر على كتمان أمجادها وأحقادها، عظمتها واستصغارها الآخرين، جمالها وقبح الآخرين... ولا تتردد في تصديق كذبها على نفسها، وفي تبرير أطماعها التافهة الصغيرة التي لا تنسجم مع ادعاء العظمة.
النرجسي موجود في كل الأمكنة:
يتمتع النرجسي بقدرته على التحديق في ذاته ووهم رؤيتها في كل ما حوله، فهو لا يطيق أن يحس بأنه غائب عن مكان ما، أو شيء، ما أو نص ما، ولذا فإنه لا ينفك يستجدي، وينهمك في رسم وجوده البطولي الجميل «على الحور العتيق» و «على رمل الطريق»، ويدس نفسه في «الكتابة» المخلدة، وهو يعلن عن هذا كله دون كلل أو ملل إعلاناً مباشراً بسيرته الذاتية المعبرة عن فرادته وعبقريته، هذه السيرة التي تنبئ عن «عظمة» مستمرة الحضور عبر الزمن، فعناوين كتبه تصطف بالعشرات متتابعة في نسق معرفي يشهد لصاحبه بالإمامة والعبقرية؛ أما مناصبه المتسولة فهي مما لا يطاولها أحد، فقد صار رئيسا ومؤسسا وفاعلا وكاذبا. وهو لا ينسى أنه مترجم حاذق على الرغم من أنه لا يتقن لغته الأم، وهو صاحب مدرسة في الفقه لا يعرفها أحد سواه، وهو ذو ألسنة ووجوه متعددة، ومعارف موسوعية تغطي حقول المعرفة كلها.
إن ظاهرة الأصولية الشخصانية القائمة على الإعلاء المرضي للذات الجوفاء لا تنبثق إلا من الرجال الجوف، ولا تؤدي إلا إلى عمى معرفي، وداء يعمي عن رؤية الذات في حقيقتها التي تتعالى دون أن تدرك أنها تصغر إلى حد يقودها إلى الامحاء، والسقوط في عبودية الذات التي تحول بينها وبين المعرفة، وتجعلها تتردى في عمى يجعلها خاضعة لأوهامها، وغير قادرة على رؤية الكائنات على حقيقتها حجما وقيمة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :