-

كتابنا

تاريخ النشر - 26-03-2024 11:05 AM     عدد المشاهدات 65    | عدد التعليقات 0

الزرقاء .. أزقة وحارات في رمضان (2)

الهاشمية نيوز - ناصر الريماوي

في الزرقاء وتحديدا في حارات شرق الحاووز حيث الأزقة المتربة صيفا، الموحلة شتاء، وهي تسند إليها جدران البيوت الخارجية الكالحة والمقشرة بفعل الفصول، أكاد أجزم بأنها كانت على دراية بهذا الحضور الرمضاني السعيد، وكان لها مثلنا أن تحتفي بهذا القدوم الموسمي الطارئ على حياتنا.

صحيح أنها لم تكن لتتزين على طريقة المدن الفاطمية وأحيائها، أو حتى المجاورة لنا لتستقر حبال الإنارة على امتدادها بتلك الأهلّة الرمضانية النابضة بالفرح، ولكنها كانت تنقلب على ذاتها وهي تخلع عنها رداءة الشمس وغبار الصحاري لتغدو حاضنة أليفة لصفيّ البيوت الغارقة بالملل على جانبيها، تشعلها بالحياة، تعمرها بطقوس يومية جديدة، متجددة، لتثير بين ساكنيها ولعا موسميا لا يضاهى، تشعلها دفعة واحدة وبالقدر نفسه. يكفي أن تعبر الزقاق في أي وقت لتدرك ما تبوح به جنبات البيوت وما تبدل في جوف كل منها ليغدو حفاوة عفوية وفرح حقيقي بالشهر الفضيل.

أكثر ما كانت تحتفي به الأزقة في حيّنا هو صوت «المسحراتي» وانسجام طبلته المشدودة إلى صوته الملائكي، حين ينبثق كاستجابة حتمية للدعاء في صلاة التراويح السابقة لأهل الزقاق، ومن أشد الزوايا حلكة في المدينة، كطقس ليلي يعبر الحارات معا، وفي وقت واحد، يتردد على امتداد الأزقة كلها بعد أن تفتح له ذراعيها طوعا قبل أن تمدهما لنا لتوقظنا للسحور.

يظل صدى صوته الرخيم يتردد بين جنبات الأزقة، وزقاقنا تحديدا، حتى مطلع الشمس.

قلت لوالدي ذات مرة: لم لا يرحل المسحراتي عن هنا ويذهب إلى زقاق آخر..!؟

يرد في ضيق: هو لم يأت إلى زقاقنا أو يمر به أصلا هذه الليلة، هذا صوته الذي احتفظ به الزقاق لنا.

في النهارات الرمضانية القائظة كنا نفر من الشمس، نلوذ بالظلال الزاحفة للبيوت في الشارع السفلي المسفلت، نلاحق أفياء الدكاكين والبيوت لنركن إلى مصاطبها الإسمنتية ننشد الجلوس إليها حتى يحين العصر.

اعتدنا في أوقات الذروة، عند الظهيرة تحديدا، أن نصعد نحو الأزقة لنحتمي بها، وننعم بهواء نسيمها العليل، جدرانها التي احتفظت لنا بما تيسر من نسائم الليل المنعشة تعمد لإطلاقها الآن نحو أجسادنا الضامرة كي تغمرنا بالمزيد. نهب إليها بعد أن يصيح بنا «الدكنجي» العابس على الدوام ونحن نلطي تحت مظلته الممتدة ونقعي أمام بقالة الحيّ المشرعة منذ الصباح، نتصبب عرقا: عليكم بالأزقة.. عليكم بالأزقة..!

ليس هذا فحسب.. بل كانت تمدنا الأزقة بارخبيل الرائحة الجميلة واللذيذة قبيل الإفطار. روائح القدور العامرة بالأطعمة في كل بيت، كانت تحتفظ لنا جدرانها الكالحة بـ «نوتات» عطرية غامضة، توابل وقرفة وزعفران في تناغم لا يوصف.

حتى شخير «البوابير» تحت تلك القدور كان نغما رمضانيا لا يضاهى، نستعيده في كل مناسبة دون ملل أو سأم حتى يومنا هذا.

تلك الأزقة لم تزل على حالها، ملجأ حنونا لمن عرفها وعاش بين جنباتها، تسكننا رغم رحيلنا الطوعي إلى أحياء بعيدة، أكثر رقيا وحداثة، أحياء جديدة تمدنا بالوحدة وتخلو من أزقة مماثلة بتلك الجنبات والجدران الكالحة المقشرة، أحياء لا نعرف فيها ذروة القيظ تحت أصوات «المكيفات» والمراوح الدائرة على مدار الساعة، ومع هذا كله لم نزل نهفو إليها كلما عبر الشهر الفضيل لتستوطن الذكرى ثم تنداح حزينة على امتداد يومنا وشهرنا الفضيل وسط أحياء غريبة، راقية.. لا أزقة فيها.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :