-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 18-03-2024 10:59 AM     عدد المشاهدات 75    | عدد التعليقات 0

نحيا لنأكل

الهاشمية نيوز -
رمزي الغزوي


ربما توافقوني الرأي أن ثمة ديناً على هذه الأرض، لا ملحدين به على الإطلاق. أي ديناً يؤمن به الجميع إيمانا مطلقا ولا يكفره أحد. فن الطبخ الجيد، وأصحاب هذه النظرة يقيسون رهافة الشعوب ورقيها بجودة وبفن طعامها لأن الطعام كالموسيقى والرسم من مؤشرات رقي الأمم وتقدمها.
وقريباً من هذا، فأنا أرى، أن الطبخ فن ذكوري لم تستطع المرأة أن تبلغ فيه شأواً بعيداً كما بلغ الرجل، وتؤيدني بذلك المشاهدات اليومية، فغالبية برامج الطعام التي تقدم على الفضائيات، هي لطهاة رجال، ومع هذا مازلت أؤمن أن الطعام الذي لا يؤنث لا يعول عليه.
أحياناً أتمنى لو لم أدخل معترك الكتابة ووجعة الرأس، وأخمن أنه كان علي أن ألج عالم الطبخ والمطابخ من أوسع أبوابها، فهو يطعم سمناً وعسلاً، وليس كالكتابة التي لا تطعم لا خبزاً ولا بصلاً، فكل كتاب الوطن العربي لا يبيعون كتباً بالحجم الذي يبيعه شيف طعام من الدرجة الوسطى.
في طفولتي المشاغبة كنت طاهياً مميزاً مبدعاً إذ نطبخ عصائد الطين، ونشوي الجنادب والسحالي في علب السردين الفارغة، ثم نقدم موائدنا لضيوفنا الوهميين الذين يعودون إلى خيالاتنا بلا أصابع إذ بلعوها من فرط شراهتهم بالتهام طعامنا اللذيذ.
وبعيداً عن تسويق الأدب وتسويق الطعام، فستظل النظرة الفلسفية العليا للإنسان تعد الجوع من أمهر طهاة الطعام على الإطلاق، لأنه يقبل ويتقبّل كل ما تلقيه إليه، حتى لو كان خبزاً وماء. ودعاة الجوع هؤلاء كانوا نسّاكاً قبل أن ينقرضون لأنهم رأوا الجوع سبب جمال الإنسان وظرافته.
يقول جلال الدين الرومي، شاعر الصوفية الأكبر صاحب كتاب المثنوي إن الخبز واللحم طين، فأقلل من أكلهما كيلا تبقى عالقاً بالأرض كالطين. فيا ترى، في زمن الطين هذا الذي نحياه ونغوص به، كيف لنا ألا نلتصق بالأرض ونتشبث بها ونحن نلتهم كل هذا؟.
مع كثير من الأسف فنحن في هذه الأيام التي بالأصل يتوجب أن تكون للتقشف، مصابون (بالبوليميا)، وهي الإسراف الشديد بالأكل والنهم. فجل دعاياتنا التلفزيونية وعلى مواقع التواصل للطعام والشراب، وكل الفضائيات تتسابق لتقديم برامج، كيف نطبخ؟ كيف تشوي؟ كيف نهرس؟. الكل يريد أن يعلمنا الطبخ وضروبه وأشكاله وميزاته، ولكنهم أبداً لا يقولون لنا كيف نأكل؟.
وضمن سياقات الحيرة التي نعيشها في هذه الأيام؛ ينطبخ سؤال فطير في عقلي، فهل نأكل لنحيا أم نحيا لنأكل؟






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :