-

كتابنا

تاريخ النشر - 16-01-2024 10:21 AM     عدد المشاهدات 85    | عدد التعليقات 0

محمود فضيل التل .. وداعًا

الهاشمية نيوز - د. عماد الضمور/ ناقد أردني

فُجع الوسط الثقافي قبل أيام برحيل الشاعر الأردني محمود فضيل التل، الذي عرفته كريم النفس، صادق الوعد، حسن المعشر، نقي السريرة، جميل الإبداع.

أجمعَ كلُّ من تحدث عن محمود التل وأخلاقه، على حقيقة مهمة في حياته تتلخص في حرصه على أن تكون حياتُه وشعرُه متحدين، أي أن الشاعر يرى في شعره ما يراه في نفسه والعكس صحيح وهذا يعني أنّه على درجة عالية من الصدق تجاه فنه وذاته؛ ما جعل شخصيته وروحه منظومةً في شعره الذي يعدّ جامع آلام وآمال أمته.

في كلّ مناسبة تجمعني بالشاعر محمود التل، أجد نفسي أحلق بفضاءات جديدة، وروح جديدة كذلك؛ لأن التل كتب من وحي ما يحياه، وما يتّقد في وجدانه من مشاعر وأحاسيس، تنبت شعرًا، وتزهر وجدَا صادقًا، وفيض حبّ لا ينتهي.

محمود التل شاعر حقيقي، وفنان مُلهَم، لا نقرأ حياته إلا من خلال شعره، ولعله من الشعراء القلة الذين نؤرخ لهم سيرتهم الذاتية من خلال أشعارهم، وحّد بين الشعر والحياة بطريقة مبدعة، نجد حزنه وفرحه، ضعفه وقوته، وكل ثنائيات الحياة مبثوثة في مفردات قصائده، يدنو من متلقيه بهدوء، ويقنعه؛ لصدق عاطفته، وقسوة تجربته الحياتية.

تغدو قصائد الشاعر أكثر اختزالاً للفكرة عندما تتجه نحو الذات التي تنتشي بألمها، وتتفوق بنزعتها الإنسانية وروحها الثائرة على متناقضات الواقع، وهزائمه المتتالية.لكن هذه القصائد تتجه نحو الإطالة، وكأنها قصة شعريّة عندما تتجه نحو الذاكرة حيث توهج المعاناة واتّقاد الخبرات، وانفلات رغبات النفس، وانبلاج الأماني الموؤدة.

أمّا مدينة إربد فهي قصة حبّ أخرى في شعر التل، إذ لم أجد شاعرًا تعلق بإربد تعلق محمود التل بها، إنها قريته الأثيرة، وعالمه الواسع، وحبيبته الأزليّة، لم ينقطع الحبل السري بها رغم انتقاله للعيش في مدينة عمّان، حيث الجأته الوظيفة إلى ذلك، وهذا ما جعل من إربد أمًّا أخرى ينشدها الشاعر كلما ضاقت به الحياة، أو اشتد به ألم المرض القاسي.

أشعر وأنا أقرأ قصائد التل بمعشوقته إربد أنها تختلف عمّا قيل في إربد من أشعار، فهي في شعر التل مهرة جامحة، وسهل دائم الخصوبة، ريانة متأهبة، تحتفظ بإرث مقدس، وحكايات لا تُنسى، تزخر بالحبّ والعطاء. وهو في الوقت نفسه حبّ للأردن، إذ تنشط الذاكرة الوجدانية لتشكّل فضاءً واسعاً للوطن الأسمى تبرز صورة الوطن ببعديه الحركي والروحي فكان قسم الشاعر بالولاء للأردن في الأحوال كلها. حيث استمد من شعر عرار وهج التعلق بالوطن، والدفاع عن قضاياه وبخاصة فيما يتعلق بذكر أسماء الأماكن ومتعلقاتها الوطنية، إذ بقي متمسكاً بهويته الأردنية عاشقاً لترابه.

إنّ حياة التل التي أنهكها المرض أوقدت شاعرية قصائده وأمدته بوقود الشعر وملهمات الإبداع، فنقرأ في شعر التل وداعيّات حزينة، وقصائد في رثاء الذات؛ ما يضعنا أمام ثنائية الموت والحياة، حيث جماليّة الصورة، وصدق العاطفة، وتصاعد خطاب الموت الذي يجد فيه الرومانسي خلاصًا من حياة لا تُطاق.

محمود التل لا يكتب قصيدته إن جاز التعبير، بل هي التي تكتبه في الغالب، فهو يُبدع قصائده مستسلمًا لقوة الذاكرة وهيمنة العاطفة، منقادًا لما استقر في الوجدان من سحر انبثق شعرًا مهيبًا، ونهرًا دائم التدفق.

يرصد المتلقي لشعر التل صدقًا في الانتماء للأرض، فكان عنيفًا في عشقه، رقيقًا في حزنه عظيمًا في كبريائه، مثخنًا بعذاب الواقع، ودويّ التاريخ، منتميًّا إلى ما لا نهاية بوطنه الكبير.

ضمت دواوين الشاعر رصيداً زاخراً من القصائد الإنسانية الوجدانية الوطنية القومية والفكرية والاجتماعية والغزلية توزعت ما بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة.

لم يُعرف عن التل قط أنه قال شعراً في التكسب أو الهجاء، ذلك أن الشعر عنده رسالة ، لذلك نجد شيوع شعر الرثاء والموت في شعره ، فالتل من أكبر عشاق الحياة ولذلك شغلته مشكلة الموت وكانت محوراً أساسياً في شعره كان حسيّاً ومثاليّاً في آن واحد، فمثلما فُجع بفقدان الأشخاص كذلك فُجع بفقدان المثل العليا في مجتمعه فولى وجهه شطر الحواس يُشبعها حتى لا يكاد يُبقي عليها من فرط الإنهاك إذ ظل متماسكاً واثقاً بذاته معتزاً بها لأصالة انتمائه ونبل سجاياه.

أقرأ عشق فلسطين في شعر محمود التل، فكان المكان الفلسطيني متوهجًا في قصائده، متمسكاً بعروبته وضرورة تحريره من المحتل، كاشفاً جرائمهُ البشعة وداعيّاً إلى وحدة الصف العربي. كذلك تغنى بالانتفاضة الفلسطينية المباركة مجسّداً طموح الإنسان العربي بالنصر وقدرته على ذلك. كانت أخر قصيدة كتبها في حياته هي قصيدة (غزّة) التي صدرت ضمن ديوان (طوفان الأقصى) الذي اشترك فيه مائتين وثلاثين شاعرًا عربيًّا، كان محمود التل حاضرًا بينهم بحبّه الدائم لأمته العربية.

رحم الله محمود فضيل التل الوطني الملتزم والشاعر الأصيل، والعروبي المنتمي.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :