-

كتابنا

تاريخ النشر - 20-11-2023 10:29 AM     عدد المشاهدات 77    | عدد التعليقات 0

حكاية الشجرة التي تمشي

الهاشمية نيوز - لانا محمد الحياري
ربما لم يكن ينبغي لهذا أن يكون مستغرباً، بما أنني أسند رأسي في هذا الهجير في فيء شجرة أخـرى في تلك البقعة البعيدة، خائر القوى ، مرهـق الجسد ، بعد أن طفت على الشجر المترامي على امتداد بستاني الفسيح، لكن تأكدي من أنها لم تكن هنا قبلا، ومن أنها جاءت إليّ في تلك الساعة بالذات ماشية تجـر أذيالهـا جـذورا هـو الذي جعلني أوقن أن في الأمر خروجاً عن المألوف والمعتاد..
لكـن الطريف في الأمـر أنـني – تمامـاً كـمـا في حكايات الطفولة – لم أجد الأمر مستهجنا ولا مثيرا
للريبة...!
- «تفاحةٌ جميلة .. «قلت لأكسر الصمت، مشيراً إلى ثمرة متعلقة بأحد غصونها.
-»أشكرك ..!» قالت الشجرة الماشية
لم يكن هناك من داعٍ لأن أستغرب كلامهـا أكثر مما استغربت مشيها، فـرابط مـا يربطهمـا-المشـي والكلام- معاً، تماماً كما السؤال المركب الذي تتلقاه الأم حين يقارب اكتمال الحول على صغيرها الجديد: « أتكلـم بعـد...؟ أمشـى....؟» (ويضاف له دائماً سؤال ثالث: -»أظهرت أي من أسنانه ....؟» لكن هذه ، طبعاً، حكاية أخرى... !!)
والآن بعـد أن تأكـدت أنها تتكلم، آن لي أن استدرجها لأعلم بعض الذي لا أعلمه، فلست في كل يوم واجداً شجرة متكلمةً!
من أين أبدأ..؟ وكيف يفعل هذا الذي أشرع أمامه على حين غرة- عالم مجهـول جـديـد..؟ فكرت أن أمسك بتلابيب أفكاري التي أسكرتها نشوة المعرفة الموعودة، وأن أبدأ من تلك البداية المضمونة : بشجرة جدي آدم الأولى
- «أكان الخلود أم المعرفة ذلك الذي أغراه بها..؟
«ثم كيف قدر له أن تكشفه الثمرة فيطلب الستر من بعض ورق ...!!
«ما كان يضيرها لو أنها تكلمت فسلم وسلمنا، جدتك تلك...!» قلت للشجرة..
- «أما كان مغنيه عن كلامها ما سمع من الذي هو خيرٌ منها...؟!» ردت الشجرة مبتسمة !
حين اطمأنت نفسي إلى حكمتها ورجاحة قولها، طفقت آتيها بذكر كل من عرفت من قريباتها، أسألها عن درجة قرابتها بهن، وعن ما يجري في لحاها مما جرى في فروعهن... وعرجـت بهـا، مـن ضـمن ما ذكرت، على أخت لها في الجاهلية كانت تشي للرجـال بمـن لم تصـن غيبتهم من نسائهم، عن أي علم نطقت..؟ وكيف أدركت وعرفت، فأرخت رباط هذا وشدت على الفرع وثاق ذاك.....؟ ولم تراها سكتت فما عدلت، أمـا كـان أطهر لها لو روت حكايات الرجال لنسوتهن، فليس للقبح جنس ولا نوع... !
ثم ملت بها -بعد أن أرضت فضولي لما سألتُ - إلى ذكر شجرةٍ أخرى، ردت مُلك مَلك، وأنهـت ضياعه في بحور الأساطير سنيناً، ورحمت امرأة من الغزل والنكث، وحفظت ما كان ليستحيل، لولاهـا، سدي ..سأألتها :
- «مـاذا أراد أوديسيس» بها حين بنى حولهـا مخدعه...؟
وأي صمت مميت ذلك الذي منعها في ليلة الفـراق أن تسأله : «مالك وللحرب لوجه جميلة خائنة...؟
وإلى من حين تظعن تولي أمر الأحبة...؟»
وحين لم تقصر إجابتها هذه عن كمال تلك ، تشجعت أكثر :
- مـن تطـاول السـروة حين تمتد نحو الأعالي...؟» سألتها
وأي اتفاق سري عقدته الغرقد مع يهود..؟ أوَ في الشجِر خيانةٌ كما في البشر.. ! «
من أي بذرة نبتت زقوم النار..؟
وكيف يبدو طلعها..؟
ومتي يئين حصادها...؟
ولأي شيء أقسمت ’البونزاي‘‘ ألا تكبر...؟ مم تخاف ..؟ أو إلام تطمئن..؟
ومن ذا الذي احتمل شوك الصبر أول مرة وظن أن خلف بادي الألم خافي اللذة...؟
ولماذا رفع الله قدر التين والزيتون...؟
ثـم أنـى للكرمـة الوادعـة أن تعيش ثنائية الخمـر والخل...؟
وأي فكـرة تـراود الداليـة قبيـل الفجـر فـتندى لهـا العناقيد...؟
ثم كيـ...»
- «حسبك...! «قاطعتني الشجرة إذ أنهكتهـا بسؤالي وجوابها..
- «أمـا آن لي أنا الآن أن أسـأل...؟» قالت بعتب، فعلمت أن فرحي بما تقول أخذ مني حسن خلقي..
« فلتفعلي..» قلت بخجـل صـادق ولن أدعي أنني نادم...! «وإني لأرجو أن أجيبك إلى مرادك كما فعلت معي، فهذه شرعة الأوفياء، فهلمي واسألي ما شئت..»
- «أما وقد علمت منـي حـال الشجر، فلعلك شارح لي بعض حال بني قومك.
استهلت الشجرة كلامها قبل أن تكمل : -»مذ حلت علي قدرة الكلام ذات ليلة أضـاء البرق عتمتها لحد يختلط عليـك بـه النـور والعتمة ، وأوشك نورها الآني أن يخطف الأبصار، ضاقت بي الأماكن، ولم يعد صمتها يرضيني، فجذبت جذوري الضاربة في ثنايا الأرض... سحبت منها ما سحبت ، ثم تقطع منهـا مـا تقطع، وصـار لـي-إذ فعلت قدرتان : المشي والكلام...وقد فرحت بهما حين حلتا أشد الفرح، ولم يكن حالي حين ذاك، كما تبين لي بعد حين، إلا كحال من عرف ما كان، ثم لم يصـل مبلغ علمه لما سيكون، فأفسح لخياله، وأرخى له العنان، حتى هيئ له أنه «سعدٌ» هذا الذي لاقاه، و»رضا» هذا الذي عجـل إليه فواتـاه، وما أدرك أن السمّ بـاقٍ – وإن مزج بأشهى الطعام.. ! - سُمّا، ولا علم أنه يظل – وإن غـلف بحلو الغلاف- قتالاً، محمًا ولم أكن لأدرك الذي أدركت، حتى لقيت الذي لاقيت، وكابدت الـذي نـحـوه بفروعـي وسـاقي سعيت..!
منذ ذلك الحين صار لا يقر لي حال إلا أن أطوّف بين البساتين، استريح إلى جـدار بستاني تـارة –ذلك إن آنست في عينيه بريقاً، وفي قوله سحراً- وطفقت أحادثه ويحادثني، أسأله ويسألني، ثم، حين أظن لوهلة أننا صنوان؛ أشتال الشجر وبنو الإنسان، وارتاح إلى أنني -أخيراً..! - وجدت الذي طفت الدروب اسأله، يهالني أن نسمة تمر في لحظة صمت بين سؤال وإجابة، تُحرك مني الأوراق، فترتعش التفاحـة الجذلى مني بين الغصون، فإذا بالبستاني صـار أحـد اثنين : فإما أنه فرد ثوبه واقترب ظاناً أن التفاحة تلك
التي كانت أول مـا رأيـت منـي..! - ساقطة إليـه ، مستقرة في حجره... أو أنه أنف منها -علي يقين منه بسقوطها- فرغب بعينه أن ترى منظر التدني بعد أن ظن الرفعة، ولنفسه أن تحضر مشهد الانخفاض بعـد أن توهم السمو، فأشاح بوجهه ومضى، ونأى بنفسه وابتعد...!
ثم إنني مذ شهدت الذي رويت، وكابدت الذي وصفت ، لا أنفك أسأل ذاتي- وهـا أنا الآن أسألك -: أيهما يا ترى كان موقفه أشدُ إيلاماً :
أأخاك الذي دنى واقترب ..؟
أم صاحبك الذي نأى وابتعد ...؟ «
في لحظات الصمت الثقيـل الـتي تلـت سـؤالها الموجوع، سرح فكري في أمرها. كنت لأجيبها إلى ما تسأل عنه تلك التفاحة الحائرة، لولا أن أمراً جللاً شغلني، وعن ما تنتظر من إجابة ألهاني؛ لقد كنت - بحكمة الذي حادث تفاحة حائرة.. ! - أسألُ نفسي :
أيهما كانت لذته أعظـم : ذاك الذي منى النفس بأن يذوق ويعرف، فذاق في الحلم ألف مرة..؟ أم الذي طوع النفس، واستغنى، فهجر، ثم سمى، فكبُر، واستشعر اللذة الخالصة للنفس التي ارتقى بها بالعزة عن ما توهم من صغر...؟؟
أظنني أطلت الإطراق والصمت، فرحمت التفاحـةً الحزينة جهلي وقالت:
«لا بأس عليك.. خل عنك محاولة البحث عن المنطق فيمـا يعـوزه المنطق، واعلم أنني مذ رضيت بابتلائي، ولم أرفع يدي إلى ربي أسأله أن يرفعـه عني، قـدر لـي - من حينها- أن أتيه في حيرتي و أطوف الدروب حاملة شهوة الكلام، وتفاحة تميل مع النسائم، وحزنا لن يسكته سوى بعض حكمة تعلمني الصمت..!»
عدت إلى بيتي ولا شيء يشغلني سـوى حـال التفاحة الحائرة، وعجبت أن همي لحالها أنساني ما كان من كلامٍ بيني وبينها..! وعبثاً حاولت أن أغويها كي تعيد لي بعضه علي أقيده..
لكنها ظلت على صمتها، ولا شيء أملكـه لهـا سوى أن أعرج عليها في أقصى البستان، بين الحين والحين، أرقبها تغرق في صمت أدري أنهـا تكـابره ، وأن نفسها تحدث بسواه..
لعلـهـا كانـت تصـبر النفس بحكايـات الشـتاء عـن الحطابين، وعـن الصـواعق التي تغادر السماء نحـو الأرض، أو ربما يتسع أملها لترجو عفوا من الله يعجـل إليهـا بمـاء قـد يغري الجـذر بالامتداد حيث يفترض أن يكون، فيسترد ما أعطى، ويرفع ما ابتلى، ليعود للحياة سكونها الآمن، وتأوي العصافير إليهـا بعـد أن أفزعتها عنها كثرة التّرحال.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :