-

كتابنا

تاريخ النشر - 06-10-2023 09:38 AM     عدد المشاهدات 96    | عدد التعليقات 0

غرفة إدوارد سعيد .. الوعي النقدي المعاصر

الهاشمية نيوز - هنادي أبوقطَّام
على غرار غرفة فرجينيا وولف Virginia Woolf في النقد النسويّ، أسس إدوارد سعيد Edward Said غرفته النقديَّة المستقلة التي ناقش فيها عددًا غير يسير من القضايا وأشكال المعرفة العامَّة والنقد الأدبيّ منها بصفة خاصة، تجلَّى الوعي النقديّ المعاصر عنده في طرح مسألة النقد العلمانيّ Secular Criticism والنقد الدينيّ Religious Criticism مناقشًا إيَّاها في ثلاثة من مؤلفاته بدءًا من كتاب: البدايات: القصد والمنهج (1974م)، وكتاب الاستشراق (1978م)، وانتهاءً إلى كتاب العالم والنص والناقد (1983م)، هذا الأخير شكَّل ظلًّا وارفًا بعث إدوارد عبره جُلَّ أفكاره وقراءاته التي فسَّرت جدليَّة النقد الواقعة في شِباك الدينيّ المقدس مرةً والمتحرر في أخرى إلى فضاء علمانيّ فسيح.
كتب إدوارد سعيد في البدايات Beginnings لَمَحَات حول النقد العلمانيّ خصَّ بها دور الناقد أثناء تحليل الأعمال الأدبيَّة الواقعة في حيز الأصالة، فكما أنَّ لكل عمل أدبيّ نقطة بداية ينطلق منها الكاتب فلكل تحليل نقديّ نقطة بداية أيضًا إمَّا أن تُحييَ العمل وتبرزه أو تُميته وترأبه. وتكمن العلمانيَّة النقديَّة التي دعا إليها في تقديم الناقد قراءة تتصف بالاختلاف والتَّنوع، تلك الخارجة عن قيود اللغة الإنشائيَّة المُنمقة والمُتجاوزة أصالة العمل عبر لغة منفتحة تتخطَّى قدسيَّة الدلالات إلى أخرى دنيويَّة مغايرة، وهنا تتراءى نقطة بداية الناقد التي أنكر إدوارد غيابها عن الكثيرين مستهجنًا خلو قراءاتهم من أيّ محاولات متَّسقة عالجت الأصالة النصيَّة بمنظور مُتجدِّد.
وفي مصنف الاستشراق Orientalism استنكر إدوارد سعيد على المذاهب الغربية التزامها خططًا محددة لرسم صورة الآخر الشرقيّ الداعمة للهوية الغربية، فهو لم ينتقد صدق أو كذب تلك الصورة في المقام الأول بقدر انتقاده التَّعصب الدينيّ في مقياس الصواب والخطأ الذي بناه الغرب في تشكيل تلك الصورة، علاوة على ما لحق بها من أنماط التفكير التي قُولبت بقالب دينيّ لم يقبل المطارحة: كالإمبرياليَّة والقوميَّة والعنصريَّة. هذه القوة الخطابيَّة هي ما سعى إدوارد إلى إعادة النظر فيها، بعد أن أصبحت مبحثًا كهنوتيًّا غير قابل للتعديل أو التغيير حتى في صورته الثانية -الاستشراق الجديد- التي لم تكن إلا امتدادًا علمانيًّا للصورة الدينيَّة الأولى -الاستشراق القديم- وليست بحسب الظنون أنَّها صورة جديدة منصفة للشرق!، وتتحقق العلمانيَّة النقديَّة التي نادى بها إدوارد بما يخص الاستشراق في الصحوة الفكريَّة التي ابتدعها المنظِّرون الهنود والعرب والأفارقة وغيرهم من خلال عمليات الرد بالكتابة المفككة لجهاز الاستشراق الثقافيّ القائم على مذهب الجوهريَّة في صورته عن الشرق وعن نفسه أيضًا.
أمَّا كتابه العالم والنص والناقد The World The Text And The Critic فقد جعله إدوارد أرضًا خصبة شكَّل من خلالها انطلاقة جديدة للنظريَّة الأدبيَّة المعاصرة، عارضًا دور التيارات المختلفة كالشكلانيَّة والبنيويَّة والماركسيَّة والتحليل النفسيّ والنقد الجديد إضافة إلى طروحات ميشيل فوكو حول المعرفة والسلطة وجاك دريدا عن التفكيكيَّة، كلها مجتمعة عززت الخطاب النقديّ المعاصر، لكنها انتكست من جديد عندما فرضت قيودها على النص بوصفها نظريات ذات مسار وجب استحقاقه على حساب علاقة النص بالعالم والتاريخ والذات الإنسانيَّة مما ردَّه مرة أخرى إلى متاهاته الأولى.
القراءة التي شدد عليها إدوارد في مقالات كتابه هي القراءة التعارضيَّة أو ما أطلق عليه القراءة الطباقيَّة Contrapuntal Reading الرافضة لمفهوم النقد المُعتمد Canon Criticism على اعتبار أنَّ النقد نشاطٌ معرفيٌّ استمراريٌّ وخلافيٌّ، يعارض النصوص قصد الكشف عن القوة الكامنة فيها. ويتطلب النقد العلمانيّ من أتباعه اتجاهًا يساريًّا ينحو إلى تفكيك اللاهوتيَّة النظريَّة المتعاليَّة والأخذ بالأطروحة السياقيَّةContextual Thesis التي تُسلِّط الضوء على علاقة النصوص بسياقاتها الدنيويَّة: التاريخيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، مستجيبًا لمنطلقات ما بعد الحداثة التي فرضت حدودًا بين الدينيّ والعلمانيّ، رفضًا للأهليَّة النظريَّة بما احتملت من ادعاءات موضوعيَّة تُفرض من الخارج، والتأكيد على النسبيَّة التي تتباين من ناقد لآخر، ولذلك نال النقد العلمانيّ جُلَّ اهتمامه مُصدِّرًا إيَّاه مقدمة كتابه في مقابل النقد الديني الذي وقع في خاتمته، وهي دعوة صريحة للتجاوز إلى ما هو أبعد من أشكال النقد الأدبيّ التي ذكرها، وهي: النقد العمليّ، والتاريخ الأدبيّ، وتذوق الأدب وتفسيره، والنظريَّة الأدبيَّة، والقفز إلى التعدديَّة الفكريَّة المتمثلة في النظريَّة النقديَّة الثقافيَّة التي عجر النقد الدينيّ عن دعم ممارساتها، ويتطلب ذلك من الناقد وعيًّا حميمًا يتراوح بين معارضة الأصل ومساندة الفرع.
تتحقق علمانيَّة الناقد عند نفي نفسه نفيًّا قسريًّا لا اختياريًّا؛ على اعتبار أنَّ الفقد هو المُولِّد الحقيقي للإبداع والمفتاح الرئيسي لبوابة الوعي الفكريّ، وإدوارد لمَّاح فطن في هذه الفكرة تحديدًا، إذ مثَّل لها في حديثه عن المفكر إريك أورباخ Erich Auerbach الذي وضع كتاب المحاكاة أثناء نفيه، إذ كيف لهذا الكتاب أن يصدر عن مفكر يهوديّ ألمانيّ في اسطنبول الإسلامية! لولا التَّحول من الانتماء filiation إلى الانتساب affiliation، فالأول يُولِّد الثاني والثاني يُمثِّل الأول ويتجاوزه إلى دائرة أوسع من الانفتاح على ثقافات أخرى. وعلى منوال اغتراب أورباخ أكَّد إدوارد لزوم اغتراب الناقد عن انتمائه للنظريات الأساسية وانتسابه إلى غيرها توسيعًا لمداركه الفكريَّة وإتيانًا بشيء جديد يُقَوِّمُ مسار الوعي النقديّ المعاصر، ولا يتأتى ذلك إلَّا بفعل المقاومة الذي يعترض الهيمنة بما فيها من تناقضات ومفارقات تُصوِّر النَّظريَّة كأنَّها ميتافيزيقيا غير قابلة للنقاش، وهو ما يرفضه الوعي النقديّ المعاصر بوصفه ممارسة غير قابلة للاختزال.
نلحظ أنَّ الحديث حول الثيمة السابقة امتدَّ عند إدوارد سعيد ضمنًا إلى عدَّة مؤلفات، وهي: صور المثقف (1994م)، والمثقف والسلطة (1996م)، وتأملات في المنفى (2000م)، وسيرته الذاتيَّة خارج المكان (1999م) التي رأينا فيها أثر كل من شعوري الانتماء والانتساب في تكوين وعيه وإكسابه معتقدًا فكريًّا مختلفًا، مؤكدًا أنَّ المثقف يجب أَنْ يكون كائنًا علمانيًّا؛ احترازًا له من تهمة الخيانة التي تَحدَّث عنها جوليان بندا.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :