-

كتابنا

تاريخ النشر - 11-04-2023 10:54 AM     عدد المشاهدات 240    | عدد التعليقات 0

ما فعلته قصائد فاطمة

الهاشمية نيوز - أحمد بشير العيلة - فلسطين
المجرات اقتربت لتشرب من يديه بعد حديثٍ طويلٍ معها، لم يتوقع أن يحدث له كل هذا، وهو الرجل العلمي الذي أذاب سني عمره بين المعادلاتِ والسياسة والكتب، لقد كان أسعد مختار نسقاً إنسانياً كاملاً من رموزٍ ودلالاتٍ وألغازٍ وطلاسم، من كانوا حوله ظنوه كذلك، بل وصارحوه بذلك، وإن صدّق أحاديثهم عن نسقه الدلالي ليس إلا لإيمانه، بل ليقينه؛ أن الإنسان بالفعل نتاج رموزه التي اكتشفها العلم الحديث في شفرات الخريطة الجينية البشرية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تشرب المجرات من يده كغزالاتٍ كونية تطلب الحنو والدفء، يتذكر جيداً كيف كانت تأتيه المجرات لترتوي بعد كلِّ كتابٍ يقرأه؛ سواء أكان في الطبيعيات أم التاريخ أو الروايات، أو حتى الرياضيات، هو يدرك كيف أن نسقه الرمزي يتشابه تماماً مع نسق الكون، لكن كتباً كثيرة لم تقدر أن تجلب أي مجرةٍ لينابيعه، والناس لديه هكذا.. كالكتب تماماً، هناك من يجعلك تحتضن السماء بالقرب منه والحديث إليه، وهناك من يحبسك عشرة أيامٍ في سجنٍ تختاره أنت بنفسك قرفاً من الالتقاء بأي كائن.
كانت مكتبة أسعد مختار جزءاً من تكوينه، لدرجة أنه يحسب أن كل كتابٍ فيها خليةٌ في جسده، كثيرٌ من المستعيرين قد أضاعوا خلاياه، كأنهم بتروا جزءاً من أطرافه، آلاف الكتب كانت تقبع في منزله في حيٍ لا يوحي لأي زائر له أن هناك منازل فيه تحتضن كتباً باستثناء القرآن الكريم والكتب المدرسية الآنية، فاطمة الصغيرة وحدها من كانت تمسك غيمات الكتب البعيدة بيديها بعد أن كانت تجلب كرسياً وتقف عليه وهي تلاحق غيماتها الملونة، لم يكن يحس بها أو يدري أنها تدخل يومياً إلى مملكته، لأن معظم زياراتها كانت أثناء عدم تواجده في المنزل، ابنة جيرانٍ تجلب طبقاً من صنع يدي أمها، أو تطلب ما ينقص على طبخةٍ مستعجلة، تفرح بطرق باب منزل أسعد لتستأذن من زوجته وتدخل قليلاً تسترق السمع إلى كائنات السماء.
لم تظلل السماءُ أسعد كثيراً، بل أسقطته من الحبل الذي كان يسير عليه بين الإرادة في حياةٍ جميلة وقدرٍ قضى أن يظل رهين كرسيه بعد حادث إصابته رصاصة من الخلف أثناء الاحتجاج ضد الاحتلال، بكى ستة شهورٍ كاملة، وفاطمة كانت تنظر من بعيدٍ نحوه بنصف وجهٍ من خلف بابٍ أو زاوية حائط، وهي أيضاً قد بكت تأثراً من بكاء أهله وزوجته وأطفاله وجيرانه، وظلت تبكي كثيراً دون أن تدري لماذا؟.
أفاق أسعد من نوبته الطويلة، وقرر أن يحرك أحجار الدلالات على رقعة القدر، وقد تم له إسقاط القلعة التي وقفت في وجه حياته، ما إن ومضت في رأسه الفكرة، حتى شعر أنه يريد أن يقفز من الكرسي.. لن يجبر كسرَ ظهره ويحرك أطرافه وآفاقه غير كتبه، وبالفعل تصاحب مع العلماء والشعراء والأدباء والفنانين، حتى اجتمعوا عنده ووعدوه أن يحملوه إلى أي مكانٍ يريد في الكون.
قرر أن يكون خطيباً بعد أن امتلأ بالحكمة، وأراد أن يفتح عيونه ويُجري أنهاره تجاه الناس، حفظ القرآن وكثيراً من الشعر والأدب، وكان له ما تمنى، صعد المنبر حَملاً في يوم جمعة في ذلك المنزل القروي الذي رحب به، عكس مساجد المدينة التي يستولي عليها نفرٌ ممن يدْعون ويدّعون أن المساجد لهم ولمجموعاتهم وأيدلوجياتهم، كان الخروج من البيت شاقاً، لكنه كابد على أن يصبح مصدر الحكمة لمن حوله، أصعدوه إلى المنبر، حمّد وأثنى، وأغدق على المصلين عذب الكلام من القرآن والأحاديث الشريف، وأتى بأبيات الشعر دليلاً واستشهاداً على موضوعه، وتأجج التكوين الإنساني الرمزي لديه، فألقى على المصلين أبياتاً من شعر طاغور، الشاعر الهندي العظيم، فكبّر المصلون دون أن يدروا أنه لشاعر غير مسلم ولا عربي، وبأسلوبه قال أبياتاً من شعر آخرَ من ثقافات الأرض، والمصلون يتمايلون، ختم الخطبتين وصلى على النبي وصلى، واستمر كل جمعةٍ يجمع خيرات القول دون حواجز، إلا أنه أتى يوماً إلى المسجد وقد تكسرت نوافذه المعشقة بالزجاج الملون، وتحطمت زخرفاته المتفرعة بآي القرآن على الحائط، ولم يسمع إلا اتهاماً واحداً أنها .. البدعة.
في ظهيرة قائظة ذات ثلاثاء، اتصل به من يخبره أن شجرة الكينيا الكبيرة التي يفوق عمرها السبعين عاماً المظلِّلة للمسجد يحاولون اقتلاعها، جن جنونه، كم يكره اقتلاع الأشجار، بل يشعر أن روحه هي التي تُقتلع، رأى وأحس بذلك وقاطع من فعلوا ذلك من تجار المحلات المصطفة على طريقٍ مشجر، لكن كيف لأناسٍ يضعون اسم الله عنواناً لقلوبهم أن يفعلوا ذلك؟، دفع أصحابه الكرسي نحو من يحاولون اقتلاع الشجرة، سألهم:
- ولا تقطعوا شجرةً أثناء القتال، فما بالكم والسلم؟
- نحن نقاتل أعداء الله.
- أين هم، هل هم مختبئون في شجرة الكينبا؟
- نعم، إنها تشرب من ماء الشيطان.
- ماء الشيطان، ماذا تقول يا هذا، إنها تشرب من ماء الله المصبوب صباً من السماء.
- ألا تدري أنهم زرعوها في مكان حانة خمور؟
- وبقيت هي، وذهب الخمر.
- بل إن الخمر يسري في عروقها وأخشابها.
- كفاكم جهلاً.
- ماذا تقول يا عدو الله.
وهمّ أحدهم بضربه، إلا أن جماعته أمسكوا به، وقالوا:
- دعه إنه كسيح.
سقطت الشجرة، أُرجِع هو إلى بيته، التفّت الكتب عليه تمسح دمعاته التي تساقطت، وسمعت فاطمة بالخبر، فأطلت كعادتها عليه، لكنها هذه المرة تجرأت وجلست مع الكتب حوله تمسح دموعه، حسبها كتاباً، وحسبته وحياً، كانت يدها أحنى من كل أيدي وصفحات الكتب، سألها عن عنوانها إذ حسبها كتاباً، ابتسمت، ولم تجب.... في المساء، كانت الأخبار السيئة تغزو الشاشات.
من عقلية التطرف وغياب روح المحبة، أبت الحرب إلا أن تفقس الكراهية، زاحفةً كمصهور حمم بركانية مشتعل نحو الضمائر والقيم والتسامح، طرده قالعو الشجرة من مسجد القرية، والناس تعاني من ويلات الحرب بسبب قصيدة عشقٍ قالها في ذات اليد الحانية، اتهموه بالفسق، فولّى شطر مكتبته، وفاطمة وأهلها قد رحلوا إلى مكانٍ بعيدٍ، لقد اشتد القتال.
اشتد حزنه، فالناس تأكلها القذائف والقلوب الحاقدة، وتذبحها العقول الصدئة، تجاربه علمته أن لا يستسلم، علّق على جدار مكتبته صورة عالم الفيزياء ستيفن هوكنج، قرأ كتبه، نتـّف عن صفحة السماء الثقوب السوداء، وقاس معه اتساع الكون، وعرف أن الجسد، كتلة طينية عاجزة تتمدد في الزمن حتى تشيخ، والروح تتغلب بالمعرفة فتعلو وهي تضع كتاباً فوق كتابٍ نحو السماء.
مرّ الزمنُ ببطء، وذات يوم؛ وبعد سنين من التوتر والحرب والسلام الزائف كخيط الفجر الكاذب، طُرِق الباب، فتحوا، أنصت كعادته، وإذ هي صبية جميلة خجولة طلبت مقابلته، تفضلت إليه، نظر إليها، إنها فاطمة، ابتسم، رغب في عناقها، مسك نفسه، نظر في عينيها مهللاً:
- مرحباً فاطمة، كيف أنتم؟
- بخير..
تمعن في عينيها، همست له:
- ما بك؟
- هناك انكسارٌ في عينيكِ.
- صحيح، طعنتني الدنيا.
- سمعتُ، آسف لما حدث لكِ، عيشي بكامل إرادتك وحبك للحياة، لا تنظري للخلف.
- لذلك جئتك.
ومدت إليه كراسةً
- يهمني رأيك أستاذ أسعد، هذه الكتابات المتواضعة ركنتها كثيراً، لكنها أبت إلا أن ترى الضوء، وأنت من سيسمح لها بأن تحلق.
ملأ الشّعر المكان كرائحة عطرٍ فرنسي، نزلت الكتب من أعنتها، ضاعت مع العطر، تسامت السحابات الملونة، أخذت فاطمة كرسياً لتقطف واحدة، لم تصل يدها، حاولت، والسحابة تعلو، وأسعد مختار يرفع رقبته، ثم يده، وهو قابعٌ في كرسيه، أسعد مختار يرفع جذعه المعطوب، اندلق عليه شعر فاطمة، ارتفع قليلاً، أنَّ وأنَّ .. ارتفعت زنابقه وشماريخه، وفاطمة تنظر إليه باندهاشٍ من علٍ دون أن تحكي، لقد وقف أسعد مختار، لقد وقف رافعاً يديه ليمسك السحابات الملونة لفاطمة، لقد وقف بعد خمسة عشر عاماً قعوداً، وفاطمة تنظر إليه باستغراب، وإلى ثلاث مجراتٍ نزلن لتشربن ماء الحياة من يديه.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :