-

كتابنا

تاريخ النشر - 01-11-2020 10:30 AM     عدد المشاهدات 443    | عدد التعليقات 0

منزل القبان

الهاشمية نيوز - ليلى جاسر سلامة
أذكرُ يومًا أجريت حوارًا من جملةٍ واحدةٍ فقط: «إنّ كل ما يرفع من بناء الآن ليس سوى اعتداء سافر على فن العمارة» ثمّ انقطع البث. اعترفت تكفيرًا عن ذنوب أخوتي معشر المهندسين. في طريقي إلى قصر أحد وجهاء البلد لعرض تصميمي الذي سيكتب عنه التاريخ بأنّه تحفة المهندس المعماري عيسى المزيّن وإلى آخر الزمان، شدّني قبح الأبنية المترامية على واجهات الطرق، من شاربي، التي بدتْ امرأة تحتلُّ سرير غرفة عمليات التجميل للمرة الألف. تمنيّت لو أنني أعمى. أخذ الدرب يقصر والمشهد يتغير مع اقترابي من الضاحية التي شيدّت بأكملها على قمة تلّة خضراء سارحة في الخلود وغافية تحت ظلال أشجار الجميّز والبلّوط. مشّطتُ آخر خطوة إلى ليوان السيّد مخلد القبّان، جلست في كنفه ساعة أو أكثر، ظهر من آخر البهو وبرفقته ظلال أخرى ميّاسة القد والقوام مرتديًا عباءة مزركشة بخيوط مذهّبة، رحّب بي واصطحبني في جولة أطريت خلالها على هذا الترف والجمال والقوام الحسن لقصره البهي إلى أن وصلنا بهو الكريستال. مشيت بخفّة، غسلت عينيَّ من القبح الذي خدشها خارج حدود هذا المكان وطهرت روحي من خطيئة إقامة أعمدة مصابة بهشاشة العظام وتلطيخ وجه السماء بأسطحٍ ذات ملامح هجينة. فُتح الباب على مصراعيه، فرأت عيناي ما يدهش ثنايا الرغبة؛ فضاءٌ واسع يسرح فيه خيول جامحة، زخرفات وانعكاسات تلمعُ وتبرق..ثمّ شدّ أذنيَّ صوت تراشق الماء وكأنّ السقف يمطرضحكات تدغدغ الجسد وغنجٌ يذوبُّ ملح العرق فانتابني الجوع والعطش ووددت أن أمتصَّ كل الماء وما فيه. أشار إلي القبّان أن أتقدّم نحوه وأمرني بالجلوس بالقرب منه، نظرتُ إليه فكان رأسه وكل ما هو غائر في جمجمته بل وجسده بأكمله مشدودين إلى الأعلى فذهبت عيناي إلى حيثُ ينظر؛ ما أعلى سقف منزله! لم ينحرف نظره ولو لثانية، انشغل يمتِّع نفسه كأنّه حفيد أحد السلاطين. كانت أصوات الجواري الحسان متموّجة تلسع الوريد الممتد بين قلبي وعنقي فنسيت عظمة القصر من رنين أجراسهن التي أطربتني ودوّختني ..شدّ يدي وأمرني أن أرخي بالي وأستمتع بمنظر الحوريات. أخذ جسدي يحترق وتملكتني غريزة التوحشُ للانقضاض على الترف وتمزيق أشلائه وحرق الماء بما فيه. هزّ كتفي لمّا رآني مفتوح الفاه على وسعه ثم سألني: ما رأيك بهذا التصميم ومكوناته؟ قلتُ له ولعابي يسيلُ دون أن أنتشل بصري من مكانه: غاية في البداعة والسحر! أكادُ أفقد عقلي، بل إنّ أعضائي فقدت السيطرة! قهقه بصوت ضجّ في الفراغ دون أن تهتز المتعة داخل بصري....تناول كأسه واحتسى ما فيه برشفةٍ واحدة ثم أمر إحدى القيان أن تحضر لي عباءة وتدلّك عنقي الذي تصلّب. أخذت تدلّك جسدي بأنامل مثيرة حتى ارتخت أفكاري وراق دمي، وكاد شعر صدري أن يسقط بلا عودة. أمّا القبّان فكان عاريًا ترتديه أجسادُ حسناوات. سألني ساخرًا: ألست من أعلن أنّ كل ما شيد من بناء هو اعتداء على تاريخ الفن المعماري؟ تأمّل حولك جيدًا! ..قلتُ له: إن هذه البركة الكريستالية المعلّقة في السقف هي علامة على ذوقك الرفيع يا سيدي! قالي لي: هذا الحوض الزجاجي المليء بالأسماك خالص الشفافية. انظرْ إلى نقاء الماء وحلاوة أجساد الغانيات الشقراوات والسمراوات اللواتي جلبتهن من كل بلاد الدنيا! هيّا متّعْ نظرك وهنّ يداعبن الماء! ...سألتهُ موحِّدًا حواسي: أهذا هو الركن المفضل بالنسبة لك! .. وعلى هيئته الراسخة كأنّه أحد أعمدة البهو ردّ علي: هل تعرف كم أنفقت عليه؟ قلتُ له: لا ..ولكن يبدو إنّ صاحب الفكرة مجنون! فصححني قائلًا: بل يعرف ما نحب ويفهم اهتماماتنا! وبصراحة أغرتني البركة الزجاجية إذ أوحتْ لي بأنها مسرح فرجة أستأثر به وحدي ومن أحب من ضيوفي. وفيما كانت أذناي تتملقان ثرثرته، بقيت عيناي تنصتان لأنفاس الأسماك العالقة في جوف الزجاج. أبهرتني حواسي وهي تضبط إيقاع التفرّد بالمسطرة والتموّج من رشقات الماء التي كانت تسقط عليّ وعلى المعتوه الذي يشرب بعينيه وينفث الدخان من أذنيه ويمتصُّ شرابه بجلده الداكن. وكزني بابتسامة ساخرة: هيّا متّعْ نظرك بفن العمارة الحديث!!
جعلتُ أشتت حواسي قبل الرحيل، ولزمني الذهول حدّ الالتصاق بالماء كأني دولفين ينعق أو سمكة قرش تغرق في الرمل...انتفض المهرّجُ الذي يتدلّى تحت إبطي وراحَ يمشي على حبل التوازن في الأعلى للقفز داخل الحوض فألقيتُ آخر نظرةٍ ثمّ تدرفلتُ لوحًا زجاجيًا، وانصبّ خرز زجاجي كالبرد على رأس القبّان، أخذتْ عباءته تطفو.. ثمّ هبّت زوبعة كثبان رملية مضت حادة كسكين ذات مخالب مسنّنة تفقأُ العيون والتصق الطين بالعورات وجعلن يتساقطن كتلًا بركانية أحرقن فيها السلاسل التي تحمل الزجاج ... سقط الماء وعاد إلى جوف الأرض. أخذت زعانفي تضرب يمنة ويسرة حتى فقأتُ عين القبّان! عبّأت الشظايا جلده! وسوس لي: سأحقنك باللهو والترف! ... سلخت ذاتي ودثّرني الرمل الخشن فخشخش رأسي طريق العودة والأبنية المترامية في شوارعنا على هيئة شبح امرأة يسطو في كل مرّة على الجمال فيحترق. قلتُ له من بعيد: أيها القبّان لا أحد سوى ذلك الطريق سينقذني من الغرق! ولا شيء يحميني غير حوض السباحة المعلّق في السقف من التحول إلى ممحاة تمحي من رأسي فكرة أني تعلّمتُ الهندسة على الورق.




وسوم: #منزل


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :