-

المجتمع والناس

تاريخ النشر - 05-02-2024 09:05 AM     عدد المشاهدات 97    | عدد التعليقات 0

الحنين لعبق الأماكن القديمة .. حينما يهرب الإنسان من التكلف ويبحث عن السكينة

الهاشمية نيوز - داهمت الذكريات، بكل ما فيها، مخيلة الخمسينية لانا عمر، حينما زارت بيت جدها القديم "العقد" بعد سنوات من الاغتراب، لتنساب دموعها وهي تناظر تلك الزوايا التي عاشت فيها ذكريات الطفولة والشباب وسط عائلتها الممتدة الكبيرة، لتعود مرة أخرى إلى تكرار زيارة كل ما هو قديم، علها تسترجع "جميل الذكريات".

"للأماكن القديمة روائح تقود إلى فتح باب الذكريات على مصراعيه"، وهذه القاعدة يتبعها كثيرون في حياتهم اليومية، حيث يتعمدون بين الحين والآخر زيارة الشوارع والمباني القديمة، والأحياء التي ما تزال محافظة على كيانها وطبيعتها، بهدف التخلص من الضغوط اليومية في الحياة المتسارعة والتي تتطلب الكثير من الكماليات ويبتعد فيها الإنسان عن طبيعته ويحتاج إلى الكثير من التكلف، سواء بطريقة "الجلوس، الأكل، وحتى الحديث المقنن".

وتقول لانا، إنها تبحث كثيراً عن تلك الأماكن التي تحمل طابع البساطة في كل تفاصيلها، سواء أكانت بيوتا قديمة، ديكورات، مطاعم، أو مواقع جلسات عائلية، حيث ترى أنها فرصة للابتعاد عن الحياة التي نعيشها الآن.
ولكونها مغتربة في أوروبا، فإنها تشعر بالحنين الدائم للأيام القديمة، التي عاشتها في كنف عائلتها في إحدى قرى الجنوب، لذا، زيارة تلك الأماكن والجلوس فيها لا يعني لها فقط الترفيه، وإنما "تنفس الكثير من الطاقة الإيجابية التي تحتاجها بين الحين والآخر".
قد تكون العديد من "الترندات" التي تظهر بشكل متكرر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حول الأماكن القديمة، بشوارعها، وأحيائها، ورائحة المخابز التي تفوح منها، وتصويرها بطريقة مميزة تظهر مدى جمال هذا المكان ولمس عبق الماضي فيه، هي ما جعل الكثيرين يحاولون الوصول إلى تلك المواقع والجلوس فيها والتصوير كذلك، ما أسهم في زيادة نسبة الإقبال عليها من الزوار من داخل وخارج المملكة.
كما دفع هذا الإقبال الكثير من المحال التجارية إلى اتباع طريقة تراثية بالعرض للمنتجات والديكور وبطابع قديم جداً، كما في المطاعم بالمناطق التراثية أو الحارات والمدن ذات الطابع التراثي، لتكون ضمن هذا النهج المتبع بجلسات هادئة وبسيطة ومنتجاتها كذلك قريبة من الطابع ذاته، من مأكولات، حتى باتت من أكثر الأماكن زيارة الآن في المملكة.
تبين إحدى الدراسات النفسية المتعلقة بالأمكنة، أن "زيارة أماكن حدوث الذكريات أو العودة إلى المنزل القديم مرة أخرى، قد تعطينا إشارات كبيرة على استعادة الذكريات الشخصية واستردادها، وهذا من شأنه أن يساعد الإنسان على تنشيط ذاكرته التي تعمل بهدوء في مثل تلك الأماكن وتجدد الأفكار، ومع تقدم السن، يصبح الناس أكثر اتكالاً على المؤشرات الخارجية، مثل الأصوات أو الصور، لاسترجاع الذكريات"، وفق ما تبينه الدراسة التي تتعلق بـ"أهمية استعادة الذكريات".
البعد عن التفاصيل الحديثة والتكلف والشعور بالهدوء والطمأنينة في مثل تلك الأماكن، له دلالات كبيرة، وهنا يبين الاستشاري النفسي والتربوي الدكتور موسى مطارنة، أن المتغيرات والتطور في الحياة هو "نسق حياتي لا بد منه"، فالتغيير والتطور قد يختلفان بأنماط وطبيعة المتطلبات من جيل الى آخر، ولكن يبقى الحنين للماضي حاضراً، وبخاصة لدى الأجيال التي نشأت وترعرعت في بيئة معينة.
ويعتقد مطارنة أن الإنسان الذي يزور تلك الأماكن البسيطة القديمة يصبح قادراً بشكل أكبر على استرجاع تلك الأوقات ببساطتها وعفويتها، وهو ما يعد تأثيرا لحالة من الإيجابية والفرح الداخلي، وعنصرا من الجذب للماضي، في ظل كل تلك التعقيدات في هذا الوقت المتسارع التطور والنمو، وجميعنا يعلم أن الحياة في السابق كانت قائمة على الحب والبساطة والدفء، والمجتمع كان منتجاً وليس فقط مستهلكاً، وفيها الكثير من أشكال التكافل الاجتماعي، والتواصل بين الناس.
ومع التطور المشهود على مستوى العالم، كان المجتمع متفاعلاً مع كل هذه التطورات والثقافات المختلفة، ونعيش في حالة من عدم التجانس، كما يرى مطارنة، وبات المجتمع يضم أجناساً مختلفة الثقافات، وبات البحث عن المجاراة واعتماد الكماليات كـ"أساسيات" جزءا من ثقافة المجتمع السائدة، حتى تحول فعلياً إلى مستهلك بشكل كبير، حيث كان الفرد في السابق يحصل على المعرفة من البيئة والنمط والتربية والعادات الاجتماعية، لكن بات العالم الافتراضي وشبكة الإنترنت منبع المعرفة والثقافة، وهذا كله أحدث تغييرا في طباع الناس وتفكيرهم، وزاد من التعقيد المجتمعي.
من هنا، أصبح لدى الناس، مع مرور الوقت، حنين للأيام الماضية وللأماكن والبساطة التي كانوا فيها، وأصبحوا يتمنون العودة لتلك الفترة، في الوقت الذي يبين مطارنة أن الهجرة من القرية للمدينة ومغادرة فضاء واسع وأرض واسعة وبساطة وحياة تكاليفها أسهل، لم تكن سهلة، خصوصا مع الدخول بدوامة من القلق والتوتر، والحنين للماضي بات متنفساً لهم.
لذلك، تكون العودة بالبحث عن الأماكن التي تذكر بحياة سابقة وكل شيء قديم أصبح له معنى ومكانة، لأنه يخفف عبء الحياة ويعزز من شعور الراحة النفسية بالبعد عن عقد المدينة.
من جهته، تحدث خبير التراث الأردني نايف النوايسة، أن حنين الإنسان إلى الماضي لم ينقطع منذ بداية الخليقة، لأن حلقات الزمن في الحياة وثيقة الصلة ولا تنفك عراها أبدا، وتطورها يتم بانسيابية محكمة ولا يشعر بها الإنسان إلا حينما يتعمد رصدها ويدرك حجم النقلات التي يخطوها في سيرورة الزمن.
ووفق النوايسة، فإن حلقة الماضي في زمننا هي الأطول، وهي حلقة منظورة بأشخاصها وأحداثها وأدواتها ومنجزاتها، وهي التي تشكل مع مرور الزمن تراثا متعدد الوجوه "التراث الثقافي غير المادي، والتراث المادي"، وأبواب هذا التراث كثيرة جدا، وبعض وجوه التراث يمكن استعادتها وإنتاجها وفق مستجدات العصر مع المحافظة على عراقتها.
ولا تتردد الشعوب بالعودة لتراثها المادي وغير المادي، بحسب النوايسة، لأنها ترى هويتها الثقافية الوطنية فيه، ونحن من هذه الشعوب التي تحن الى التراث في الأغاني والعادات والتقاليد والممارسات الشعبية اليومية والأماكن القديمة التي تذكرنا بالأجداد، ونسترجع من حياتنا معهم أجمل الذكريات والتي نسميها اليوم بالزمن الجميل. أما حلقة الحاضر فهي لحظية وسريعة ومنها نحيل إلى الذاكرة الكثير من تشكيلات التراث.
ووفق النوايسة، فإن المستقبل هو الحلم الذي نتصل من خلاله ونتطلع إلى الآتي بجديده وتطوره، ولكن يبقى الماضي دائماً، هو الأجمل في نفوس الناس، والذي يحمل وجوه وملامح الآباء والأجداد، وهذا الموضوع يؤكد أهمية البحث في فصول هويتنا الثقافية التراثية لأن فيها أصالتنا ومجد أمتنا وعظمة إنسانيتنا.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :