-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 08-05-2023 11:06 AM     عدد المشاهدات 213    | عدد التعليقات 0

الليلة الاولى في الشام

الهاشمية نيوز -
رشاد ابو داود

بعد ساعات من «خضخضة» القطار العثماني ذي المقاعد الخشبية وصلنا الى محطة الحجاز. نزلنا كل معه حقيبته وكيس حشته أمه ببضعة أرغفة من صنع يديها و مأكولات لأن ابنها يحبها في «الغربة». فهذه أول مرة ينام فيها ابنها خارج البيت دون أن تطمئن أنه أطفأ «الضو نمرة أربعة» في شبه الغرفة ذات السقف الواطي من البوص و الطين، وأنه نام قبل أن تنام.

كانت وصيتها وهي تودعني باكية «دير بالك يُما، متمشيش مع الاولاد العاطلين وما ترد على بنات الحرام، أدرس منيح». أما أبي الذي كان قوي الشخصية يعتبر بكاء الرجل عيباً فكان صامتاً لكني لاحظت احمرار عينيه، ولأول مرة أعرف أن ثمة بكاءً سرياً، ربما هو بكاء القلب. خاصة لمن يودع ابنه الأكبر. حضنني بقوة حتى شعرت بدقات قلبه وقال «دير بالك، الله يرضى عليك يابا « وأدار وجهه عني سريعاً لكي لا أرى دموعه.

حقائبنا أيامها لم تكن سامسونايت تفتح بأرقام سرية ولا من كرتون مقوى، كانت من قماش سميك وقفل صغير. تتكدس فيها بضعة بنطلونات و قمصان وملابس داخلية ومنشفة وبشكير. معظمها جديدة لتناسب «ابن الجامعة». أما درة تلك الملابس فكانت «بدلة» تفصيل عند الخياط أبو بدران، صديق أبي، في شارع الخياطين بالزرقاء مع قميص أبيض و «كرافتة « كما كانوا يسمون ربطة العنق. ولم أزل أذكر أن لونها كان بنياً غامقاً. وكيف أنسى أول بدلة أرتديها وأنا في سن الثامنة عشرة؟

في محطة الحجاز كان خليط من الناس من مختلف اللهجات و الجهات. فقد كان في المحطة التي تسمى أيضاً محطة القنوات نسبة الى الحي الدمشقي العريق الذي ظهر في عدة مسلسلات سورية منها «طوق البنات» تمثيل رشيد عساف في دور زعيم الحارة أبو طالب،، كان قطار يوصل الى دمر و الزبداني مروراً بالربوة – دمر – الهامة - عين الخضرة – وادي بردى – الزبداني – سرغايا. وهذا ما عرفناه لاحقاً في رحلاتنا الجامعية خاصة الى الزبداني.

خارج المحطة كان ثمة طلبة ينتظرهم أقاربهم أو أصدقاء والدهم. نحن، حوالي عشرة، لم يكن ينتظرنا أحد. لكن كان معنا عنوان « فندق جول جمال» القريب من المحطة. استقلينا تاكسيات وطلبنا من السائق ايصالنا الى هناك. حوالي عشر دقائق كنا في الفندق. استقبلنا شاب أنيق يتحدث بلهجة شامية «قُح». لما عرفناه علينا وأننا قادمون من الزرقاء. قلت له أن والدي له دكان خضار بجانب حلويات القاضي. ابتهج وضحك واعتدلت لهجته وقال

« أبو خليل القاضي عمي». فوجئت وقلت له : كيييف عمك؟ قال هم ثلاثة إخوة هاجروا من نابلس في الخمسينات. اثنان افتتحا محل الكنافة الذي ذكرته، والثالث وهو أبي جاء الى الشام وافتتح هذا الفندق. كلنا شعرنا بارتياح بدد شعورنا بالغربة. رحب بنا بصدق و..أصبح صديقنا و دليلنا في بداية تعرفنا على دمشق وخاصة أين نجد سكناً مناسباً و قريباً من الجامعة.

ما سر اسم الفندق سألنا الشاب في إحدى سهراتنا فقال:

جول جمال شاب من مدينة اللاذقية لأسرة مسيحية ارثوذكسية. وكان تم ابتعاثه مع تسعة

آخرين للتدرب في البحرية المصرية. وحين أنهى التدريب تطوع في البحرية المصرية برتبة ملازم و استشهد في حرب السويس عندما انطلق بزورق الطوربيد الخاص به الى قلب البارجة الفرنسية الضخمة «جان بار» فأغرقها أثناء العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر لاجهاض ثورة عبد الناصر فيما عرف بحرب السويس العام 1956.

وعن السكن قال سأذهب معكم الى الدلال في حي الشعلان، انها منطقة جميلة قريبة من الجامعة و يمكنكم أن تذهبوا اليها مشياً.

مشينا في المشوار الذي استغرق خمس سنوات.

وتلك حكاية أخرى.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :