-

كتابنا

تاريخ النشر - 11-04-2023 10:54 AM     عدد المشاهدات 191    | عدد التعليقات 0

الجملة الشعرية عند ماهر القيسي

الهاشمية نيوز - د نزار القبيلات
للشعراء تبصّرهم المختلف عن الرّوائيين الذين يحاولون تسريد المعطى الاجتماعي ومضاهاته عبر تكوين عالم من المجاز الموازي لشرطية الواقع وفرضياته ونتائجه؛ بالمقابل لا تزال مهمة الشعراء أكثر عُسراً حين يخوضون جدلَ قضاياهم بألفاظ وتبصّرات ومستمسكات لن يعثروا عليها بسهولة كما عند الروائيين الذين يعيدون تصفيف كل ما هو موجود في الحاضر المحسوس والمعقد وإعادة تهيئته وبرصيد هائل من الألفاظ والعبارات والعلامات. في الوقت الذي يكون الشاعر فيه خلاقاً وحيزه التلفظي ضيق يستطيع أهل الرواية وصُناعها الاكتفاء بتكرير وتسريد ما حولهم، إذ الشاعر ما ينفك قادراً على أن يحتال على الواقع ويخرج منه دون أن يدبغه بوسمه.
في ديوان ماهر القيسي الأخير تحديدا ثمة تشيّءٌ مختلف؛ فماهر الذي يعمل طيارا مدنيا استطاع السفر بنا إلى نهايات الأشياء كما لم يفعل الأخرون؛ فقط كان يجترح تفاصيل مهملة في نظر الواقعيين، يلتقطها ويجعلها تومض، فقد برع القيسي في شعرنةِ تفاصيل غيّبها الذهن وأدركها المنطق الشعري؛ فقد اصطاد بشعره الناثر لحظات الحزن على فقدان أحد الأعزاء ملتقطاً لحظة سكب الماء على أيدي من قَدِموا للعزاء فأكلوا اللحوم والتمور كما في قصيدة «بروق الفقد»، أما في قصيدة «العاديات» ثمة ذكرى رنّانة فالتوجس من النهايات يكون تحديداً في ذكرى من نفقدهم.
ليست ملامح النهايات ما يؤرق الشاعر الذي استطاع إفهامنا أن النّهايات والاغتراب والمصائر والبكاء والدعاء لا تخصّه وحده كما يفعل الروائيون- بل تخصّنا جميعنا نحن الذين نشارك الشاعر تبصراتها التي تحاول التمكن من سبيل المصائر والنهايات ولحظات يكون فيها الانسان وحده أمام كل هذا الوجود الكبير الحقيقي، والذي يبنيه الشاعر على أساس صعوبة فهمه وتداركه وإن تم ذلك.
لقد حاول القيسي الشاعر الماهر إحداث معادلة غير غنائية ذاهنة وذلك حين راح يحاول تجسيم ضيعة الإنسان ليس فقط بسبب هواجسه ومسلماته وأقداره الطبيعية بل بسبب دوران رحى الأرض وطحنها لشفافية الإنسان ورهافته التي لا تقوى على مجاراة لهاث الحداثة والصناعة والتبدلات القصوى الناتجة إزاء ذلك؛ ففي قصيدة4G قدم القيسي مشهدا حقيقيا لانقلاب العالم المحيط بالإنسان، إذ بلا رحمة أو إشفاق تُصادر الذكريات، ويغادر الأصدقاء بحقائبهم، وتسطو أبراج الاتصالات على تلال الطفولة ودروبها، وبجانب ذلك يعاين الشاعر مساحة أكثر دقة لإشكال مفاده هذه المرة صمود مشاعرنا أمام شروط الواقع الصلبة والكامنة في المسافات بيننا والآخرين، وبيننا وبين عقارب الساعة الجاثمة على صدر صبرنا، وبين مسامات الجراح التي يصنعها الأصدقاء، كل ذلك يعني في «قصيدة وضوح التي تنهي المشهد في لحظة «...فلا عيون تراك» .
لا يحاول الشاعر التخلص من قفل قصيدته بالنهاية المفتوحة كما يفعل الكثير من أقرانه، فالقصيدة لديه دائرة مغلقة يؤدي مفتتحها إلى نهايتها ويلتقيان في المدى الدائري غير المنتهي؛ في قصيدة «عتمة القصائد» يواجه الشاعر مجدداً إشكاله... إشكالنا القائم بين ثنائية الإنسان والوجود الحديث للزمن، فيبرر لنا في قصيدةٍ جلّ ألفاظها واضحة وعباراتها جلية ومتشاكلة باتساق، فقد بُنيت على ثنائية الضوء والعتمة، فكان السراج للضوء، وللزيتون العتمة، و للمقبرة الموتى، غير أن هذا الجلاء كله ذاب في قعر عتمة القصيدة وعنوانها الذي بكّر نهاية النهايات.
الشاعر إنسان كريم، فهو لا يطرح رؤيته بأنانية قد يشعرنا بها الروائيون. فها هو القيسي مجدداً يرى» الناس سواسية في الألم. سواسية مثل مناقير النسور» ص: 63 . لكن هذا التقمص والتجسيد والتجسيم لحالة الإنسان العصية أمام أسئلة وجوده لا تُنهي وظيفة الشعر الأساس والقائمة على تجميل السلبي والقبيح، وخلق حالة تعالٍ عند تلقيه، بيد أن هذه الوظيفة تبقى كما جاء في قصيدة «تاج ثقيل» محاولة رغم كل ما يدوس حساسية الإنسان ويتركها خلفه. ص: 67.
ولأن هذه المقالة المستعجلة لا يمكنها فتح صناديق كل القصائد الذهبية بل وعجزها عن ذلك إلا أنها تنوي أن تبين عن أن النخب في العنوان لا يرفع فقط في النهايات بل في الاستعلاء على العادية والحتمية والروتينية التي حاول عنوان العمل الأخير لماهر القيسي أن يشير إليها بتصالح، ففي كل فصل من فصول الديوان الشعري هذا ثمة موسم من العمر؛ ينثره ماهر قصائد شعرية فتحمل ثقل الواقع وحتميته وتفلت منه للمجاز؛ ففي قصيدة «مواسم» ثمة صورة لموسم الربيع، ينقلب عليها الشاعر بلحظة حاسمة ويقول لحبيبته بأنه سيؤدي هو دور المتفرجين وهي ستكون النتيجة فتصبح الحياة الملعب الأخضر.
يدنو القيسي كما ذكرنا من مفصل النهايات: البكاء والدعاء والرسائل والعناق.. لكنه ولكي يكسر نسق الحياة المعتادة على النهايات يقترب صوت الشاعر من مجلس أخيه هابيل في فصل أخير ويقول له يا أخي كم حملنا الماء معاً. كم تغطينا ببعض في العراء.. كم بكينا خيفةً.. يا للبكاء.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

عـاجـل :