-

كتابنا

تاريخ النشر - 28-03-2023 10:22 AM     عدد المشاهدات 303    | عدد التعليقات 0

المسحّراتــــــي

الهاشمية نيوز - ناصر الريماوي

في مدينة الزرقاء، «حي الحاووز» تحديداً، استقرّ ذلك «المسحّراتي» في ذهني ولفترة تخطّت سنوات الصبا، كركن شرعي لا يكتمل صوم الفرد أو الجماعة إلا به، كان بالنسبة لي كائناً رمضانياً، ينبثق صوته الرخيم من مكان بعيد، يتردد عميقاً وموحشاً في الشوارع والأزقة، يعْبر النوافذ والفسحات السماوية ويصل ضعيفاً، ينطلق بطبلتهِ وصوتهِ من أكثر الزوايا حلكةً في قاع المدينة، ينبتُ كفكرة مستجابة من كثرة الدعاء ومن صلاة التراويح الأولى التي تسبق الصوم.

لم يكن يعرفه أحد، كثيراً ما حاولتُ الترصد لأرى ملامحه وهو يمرُّ من تحت النافذة، ولكنني ومع اقتراب صوته كنت أتراجع خشية أن تلحق بي لعنة ما، أنظر فقط حين يبتعد صوته وقبل أن يختفي وراء عطفة الزقاق المترب مخلفاً زوبعة من غبار، في الصباح يأخذنا العطش إلى الظلّ وإلى مصاطب البيوت الباردة، إلى حكايا الأمهات حتى يميل النهار نحو برودة المغيب.

بالنسبة لي كان يمضي الوقت وأنا أطالع وجوه الغرباء ممن يعْبرون الحارة، أقارن أصواتهم بصوت المسحراتي، حتى يخيب أملي لأعود ملتصقاً بقناعتي أكثر: «هو كائن أسطوري، رمضاني.. يظهر مع الفجر، يوقظ الناس بهتافه وصوته ثم يعود إلى تلك الزاوية القاتمة التي خرج منها، ومع العيد يتلاشى».

بعد سنوات، انحصر ظني بثلاثة من الغرباء، ببائع العنبر، وهو يهتف بنا: «العنبر يا أولاد»، ثم ينحني ليمنح كلاًّ منّا قطعة حلوى ويمضي، وبائع علكة البُطم الذي كان يضع ديكاً حياً في سلّة خلف ظهره، وبائع «الفريسكا» الملثّم، ثلاثتهم يتخلّون عن البيع نهاراً في رمضان، ومن المحتمَل أن يكون ذلك «المسحراتي» أحدهم..

في أماكن أخرى، مثل دمشق، بين «حي الدويلعة» و»مخيم جرمانا»، كان للمسحراتي قبضة قوية ينهال بها على أبواب الصفيح، ليوقظ الناس كلهم بضربة واحدة، رأيتُ وجههُ منذ الليلة الأولى، وصادفته نهاراً يبيع عصير «التمر هندي» على عربة متنقلة بين الدويلعة والمخيّم. وفي مدن أخرى كحلب وحمص، كنتُ أراه في كل مرّة، وأتحدث إليه أغلب الأحيان.

حتى هذا اليوم، ما زلت أحاول رسم ملامح «المسحّراتي» الأول الذي كان يوقظ حيّنا، في مدينة الزرقاء، بصوته الرخيم وهتافه الذي لا يتبدل، يجتاحني الفضول ويدفعني بقوة نحو ذلك الزمن الغابر، ونحو طبيعة ذلك المسحراتي تحديداً، تبدأ فورة الأسئلة في داخلي حول ملامحه بمعزل عن غيابه الآن، وبمعزل عن سطوع هالة البرامج التلفزيونية على مدار الساعة والهواتف الذكية، وأصوات الأذان في المنبهات الالكترونية.

ما أنا على ثقة منه اليوم، أن صوته الموحش -ذلك المسحراتي- ظَلَّ هو الأجمل بين جميع الأصوات التي اعتدت عليها في حياتي.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :