-

كتابنا

تاريخ النشر - 30-01-2023 09:51 AM     عدد المشاهدات 290    | عدد التعليقات 0

الحــــربـــــــاء

الهاشمية نيوز - أنطون تشيخوف
ترجمة: نزار سرطاوي

يَعبُر أوشوميلوف رئيسُ الشرطة السوقَ بمعطفه الجديد، وقد تأبطّ طردًا. يتبعه شرطيٌ أُحمرُ الشعر يحمل بين يديه بعضًا من الفاكهة المُصادرَة. يَسودُ الصمت في الجوار. ليس ثمّة أحدٌ في السوق. أبوابُ ونوافذُ المحلاتِ التجارية والحاناتِ المفتوحة بدت وكأنها أفواهُ فاغرةٌ جائعة. لم يكن ثمّةَ أحدٌ في الجوار، ولا حتى متسوّل.
فجأة سمع أوشوميلوف شخصًا يصرخ. «إذًا أنت تعضُّ أيها الوحشُ اللعين! ليس مسموحًا للكلاب أن تعضّ في هذه الأيام. توقفْ! آهـ، آهـ!
سُمِع نباحُ كلب. نظر شوميلوف ناحيةَ الصوت فرأى كلبًا أعرجَ بثلاثِ أرجل يعدو خارجًا من ساحة الأخشاب، يطارده رجلٌ يرتدي قميصًا أبيضَ بأزرار مفكوكة. كان الرجل يسير وراء الكلب مباشرةً.ً وفجأة تعثر، لكنه عندما سقط وثبَ إلى الأمام وقبضَ على الكلبِ من ساقه الخلفية. سُمع نباحُ الكلب مرةً أخرى، وسُمِع الصراخ كذلك. أطلّت وجوهٌ يبدو عليها النعاس من نوافذ المحلات التجارية. وفي التوّ تجمع حشدٌ من الناس عند ساحة الأخشاب كما لو كانوا قد طلعوا من باطن الأرض.
قال الشرطي: «يبدو أنه شِجارٌ يا سيدي».
استدار أوشوميلوف وراح يخطو سريعًا نحو الحشد. على مقربةٍ من بوابة ساحة الأخشاب رأى الرجلَ ذا القميص الأبيض مفكوكِ الأزرار يحملُ يدَه اليمنى ويرفع أمام الحشد إصبعًا ينزف منها الدم. بدا على وجهه الثَمِل تعبيرٌ كأنما كان يقول: «انتظرْ! سأجعلك تدفع ثمنَ هذا، أيها الشرّير!» عرف أوشوميلوف الرجل. إنه خريوكين، صائغ الذهب. وسطَ الحشد كان المجرمُ الذي تسبب بالمشكلة كلِّها يُقعي مرتعشًا من رأسه إلى أخمص قدميه، وقد مدّ رجليه الأماميتين – جروٌ أبيضُ بأنفٍ مُدبّب، وقد علت ظهرَه بقعةٌ صفراء، وبدت في عينيه الدامعتين تعابيرُ البؤس والهلع.
سأل أوشوميلوف وهو يشق طريقه وسط الحشد: «ما الامر؟ لِمَ أنت هنا؟ ماذا حدث لإصبعك؟ من الذي كان يصرخ؟
قال خريوكين «كنت أسير في طريقي يا سيدي، وادعًا كالحَمَل. لم أمسسْ أي شخصٍ أو أي شيءٍ حين عضّ هذا الوحش الملعون إصبعي على حين غرة. استميحك عذرًا يا سيدي. أنا رجلٌ عامل. عليّ أن أقوم بعملٍ في غاية الدقّة، ولا بد لأحد أن يدفع لي، إذ أنني لن أتمكن من استعمال هذا الإصبع، ربما لمدة أسبوع! ليس في القانون يا سيدي ما يَنصّ على ضرورة تَحَمُّل الكلاب التي تعضّ. إذا سُمح لها بالعضّ فلن تكون للحياةُ التي نعيشها أية قيمة».
همهم أوشوميلوف وهو يحرك حاجبيه إلى الأعلى وإلى الأسفل. «لمن يعود هذا الكلب؟ لن أدعَ هذه المسألة تمر هكذا ببساطة! سأعَلّمُكم أيها الناس ألّا تتركوا كلابَكم سائبة! لقد حان الوقت لفعلِ شيءٍ بشأن أولئك الذين لا يلتزمون بالقوانين. سأعاقب صاحبَ الكلب. سأريه من أنا!» التفت إلى الشرطي. «يلديرين! أريدك أن تعرف صاحب الكلب وأن تُعِدَّ تقريرًا. سيُعْدَم الكلبُ دون إبطاء. لعلّه كلبٌ مجنون ٌعلى أيةِ حال. من هو صاحب الكلب؟
قال أحدهم في الحشد: «إنه يشبه كلبَ الجنرال».
«الجنرال؟ آهـ! يلدرين، اخلع عني معطفي. الطقس حارٌ بصورةٍ رهيبة! سينزل المطر على الأغلب...» التفت إلى الصائغ ثم أردف: «هناك أمرٌ لا أفهمه يا خريوكين. كيف لهذا الكلب أن يعضَّك؟ فهو لا يقدر أن يصل إلى أصابعك. إنه كلبٌ صغيرٌ وأنت رجلٌ ضخم. لعلّك جرحت إصبعَك بمسمار، ثم خطرت ببالك فكرةُ الكلب والآن تحاول الحصول على بعض المال. أنا أعرف أمثالك أيها الغشاش الوغد»!
«لقد وكز وجهَ الكلب بسيجارة. ولهذا هاجمه الكلب وعضه يا سيدي».
«هذا افتراء! أنت لم ترني افعل ذلك، فَلِمَ تكذب؟ إن حضْرَتَهُ رجلٌ حكيمٌ يعرف من يقول الحقيقة ومن يكذب. إن كنت أكذب، فلندعِ المحكمة تقرر. القانون يقول إننا جميعًا في هذه الأيام متساوون. لديّ أخٌ في الشرطة. دعني أخبرك».
«توقفا عن الجدل».
قال الشرطي متفكّرًا: «لا، هذا ليس كلبَ الجنرال». «ليس عند الجنرال كلاب كهذا. كلابه مختلفة.
«هل أنت واثقٌ من ذلك»؟
«نعم سيدي، كلّ الثقةً».
«أنا نفسي أعرف ذلك أيضًا. الجنرال عنده كلاب من سلالة باهظة الثمن، أما هذا الكلب! فليس له شَعرٌ ولا شكل. لِمَ يقتني الناس كلابًا كهذا؟ هل تدري ما الذي سيحدث لو أن مثل هذا الكلب ظهر في بطرسبورغ أو موسكو؟ لن يعبأَ أحدٌ بالقانون وسيُخْنَق الكلب على الفور! أنت ضحية يا خريوكين، وقد عانيتَ كثيرًا. لن أدعَ هذه المسألة تمر هكذا ببساطة! لا بدّ أن أُلقِّنَ المالكَ درسًا!
كان الشرطي يفكر بصوتٍ عالٍ: «ربما يكونُ كلبَ الجنرال رغم ذلك». «قبل ايام رأيت كلبا مثلَه في ساحة بيت الجنرال».
قال صوتٌ من الحشد: «بالطبع إنه ملك للجنرال».
«يلدرين، ساعدني في ارتداء معطفي. الطقس بارد. الريح تشتدّ. وأنا أرتعد من البرد. خذ الكلبَ إلى مقرّ الجنرال وتحرَّ عن الأمر هناك. قل إنني وجدته وأرسلته. وأخبرهم ألا يتركوا الكلبَ في الشارع. فهو على الأغلب كلبٌ باهظ الثمن، وإذا ما راح كلُ وغدٍ يكِزُه بسيجارة فسيحلُّ به الدمار عمّا قريب. الكلب مخلوقٌ رهيف. وأنت أيها الغبي أنزِلْ يدك! لا تريني إصبعك التافه هذا مرة أخرى. الخطأ خطأك.
«ها قد حضر طبّاخ الجنرال. فلْنسألْه. مرحبًا يا بروخور. تعال إلى هنا لحظة! انظر، هل هذا الكلب لك»؟
«أي كلب؟... لم يسبق أن كان لدينا كلبٌ كهذا أبدًا»!
قال أوشوميلوف: «لا داعي لإضاعة الوقت في السؤال. «إنه كلب ضالّ. ليس هناك ما يقال غير ذلك. إذا قلتُ إنه كلبٌ ضالّ، فهو كلبٌ ضال! لسوف يُعْدَم»!
أردف بروخور: «إنه ليس كلبنا، بل يعود إلى شقيق الجنرال الذي وصل من موسكو قبل أيام. فسيّدي لا يحب هذا النوعَ من الكلاب، لكن شقيقه يحبها».
«إذًا وصل شقيقه؟» سأل أوشوميلوف وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة البهجة. «تصوّروا! ولم أكن أعلمٍ بذلك! هل هو هنا في زيارةٍ مرةً أخرى»؟
«نعم سيدي، في زيارة».
«حسنا. لم أعرف بذلك أبدًا... إذًا تقول إنه كلبُه؟ رائع، كم أنا سعيد. خذه! يا له من كلبٍ صغير مليءٍ بالحيوية، كلبٍ صغيرٍ خفيفِ الحركة ينقض على إصبع هذا الرجل! ها ها ها ها. لِمَ ترتجف يا صغيري؟ رررر... رررر... هذا الرجل شرير».
نادى بروخور على الكلب واصطحبه معه. ضحك الحشدُ على كريوكين.
« قال أوشوميلوف متوعّدًا: «ستقع في يدي ذات يوم»، ولفَّ نفسه بمعطفه، وتابع سيره عبر السوق.
نبذة عن تشيخوف
يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.
التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.
بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.
في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة «قصة كئيبة» (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.
في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.
كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.
كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا، حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :