-

كتابنا

تاريخ النشر - 23-08-2022 10:57 AM     عدد المشاهدات 240    | عدد التعليقات 0

لستُ لاعب نرد

الهاشمية نيوز - الدكتور أنور الشّعر

(معارضة نثرية لقصيدة
محمود درويش «لاعب النّرد»)

لا، ... لستُ لاعب نرد مثل شاعرنا الراحل محمود درويش، ولستُ مقامرًا مثل الأستاذ ألكسي إيفانوفيتشبطل رواية «المقامر» للكاتب الروسي فيودورديستويفسكي. إنّما أعدّ للحياة زادها وزوّادها، وأعقلُ ثمّ أتوكّل.
صحيح أنه لم يكن لي يد في نشأتي الأولى؛ إذ كانت بدايات حياتي أقرب إلى ضربة حظ أو رمية نرد، حالي حال آلاف من أبناء جيلي الذين ولدوا على قارعات المنافي وتحت صفيح الشتات الملتهب صيفًا وصقيعه الذي يجمد الدم في العروق شتاءً. لم يكن لي من الأمر شيء في أن يرى أبي تلك الفتاة الفلّاحة ذات الدّلّ والجمال، المزدانة بأثواب العفّة، والطّهر، والفرح الفطريّ عندما كانت تنتقل ما بين منزل والدها وبين بيارات البرتقال قرب شاطئ الفردوس الأبدي في ضواحي الحبور قرب يافا، تتهادى كطائر حجل، أو تطير كقبرة لتسلب قلب صيّاد يتقن الصيد ويعرف الدرب إلى عشّ القبّرة. لم يكن لي شأن عندما قرر أن يخطفها على هودج الهوى والأمل ليسكنها في أجمل علّية على الساحل الفلسطيني جارة للمحارات وفيروز الشطآن،فتطل من شرفتها لتلقي التحية على الحوريات يغتسلن في بحر يافا، ليجعل من تلك العليّة أجمل عشّ للحب والحَمام. لم أكن قد تنسمت الهواء عندما هُجّر والداي إلى بلاد المنافي والشتاتبضربة غدر... ورمية نرد صهيونية، فأصبحا بين عشيّة وضحاها لاجئين يقتاتان على بؤس المنافي وقهر الشتات. لم يكن الأمر بيدي أن أولد منفيًّا بعيدًا عن وطني مغتربًا في دروب التّيه القهريّ. وكانت تلك الواقعة، أي حادثة ولادتي ثمرة ليلة عبثية بين زوجين عاشقين، أو – لا أقول رمية نرد قدرية- بل هي مشيئة الله العزير الحكيم أن آتي إلى الحياة في ذلك الزمن الجزر؛ زمن الهزائم والانكسارات لأحيا وأشهد، وأكون شاهدًا على قهر المنافي، وغربة الشتات، وحكاية أمة مقهورة ومهزومة من داخلها، فلم تصمد أمام أعدائها.
لم أكن أعلم وأنا أمتطي صهوة الطفولة الوادعة في أزقةمخيّم (عقبة جبر) في الضفة الأخرى للروح الجريح قرب ينايع القمح، وضفاف الياسمين، والتمرحنة، والرياحين التي تغفو في حضن شتاء دافئ وتترجّل عن خيلها مع بدء الصيف، إذ كانت تتخاطفني قوّة خفيّة تشظيني بين مد الحياة وجَزْرها، فكانت الحياة تتأرجح بين ضربة نرد وعفوية طفولة مسحوقة تحت عجلات قطار العمر الضائع على أرصفةٍ يبابٍ في ضواحي القهر الأممي في ظلّ بطاقة إعاشة تمطرنا كل شهر بشحيح من سراب الطحين المجرذن، والجبنة الصفراء كالحة اللون والطّعم، وزيت المرجرين المخلوط بالذل. وقتئذٍ لم أكن أعلم ما تخبئه لي الأيام القادمة من تصاريف الدهر وتقلّبات الزمن. تلك مرحلة انتهت بضربة غدر متعددة الجنسيات، ولم يكن لي دور في أن تمنى أمتي بأقسى هزيمة وأفظعها وأنا في مقتبل العمر، في حرب ممسرحة في حزيران عام 1967. تلك المسرحية الغرائبية التي انتهت بخروجي النهائي من ضفاف الفردوس الأرضي إلى مدن التّيه والرّماد، وحوّلتنا إلى لاجئين منفيين ومعدمين مرّة أخرى، وانتقلت بي من مرحلة الصّبى إلى رجولة مبكّرة قسريّة متجاوزًا مرحلة المراهقة بعبثيتها وتمرّدها، فقررت أن أحيا كما أنا أشاء، وأن أكفّ عن لعب دور المتلقّي السلبي لضربات حظّ أو رميات نرد وغدر عبثية. وقررت أن أمسك بمقود حياتي بقوّة وعلى بصيرة أمدتني بها رعاية الله وحفظه. فلم أكن لاعب نرد عندما، في خضم المعترك السياسي والعسكري آنذاك، قررت أن أخط نهجي السياسي النابع من حبي وانتمائي وانحيازي لوطني، فاخترت- عن وعي وليس مقامرة- الانضمام لحركة المقاومة الفلسطينية التي بدأت تأخذ زخمًا ثوريًّا فلسطينيَّا وعربيًّا ودوليًّا. تلك مرحلة كان لها الأثر الأكبر في تكويني الثقافي، والسياسي،والفكري، والاجتماعي. لم أكن لاعب نرد عندما ثابرت على الدراسة في الثانوية العامة كي أحصل على معدل يؤهلني أن أحصل على مقعد للدراسة في الجامعة الأردنية، وكانت الجامعة الوحيدة في الأردن. وكان ذلك بدعم وإصرار كبيرين من أمي-رحمها الله وأحسن إليها- بعد جولات من الدراسة والانقطاع في مرحلة ما قبل الثانوية العامة. لم تكن ضربة حظ أن أتخصص في اللغة الإنجليزية وأطوّر بها منظومتي العلمية والثقافية. لم أكن لاعب نرد عندما رفضت العمل في قطاع البنوك- كما فعل العديد من زملائي آنذاك- واخترت مهنة التعليم، فقد كان قراري اختيارًا واعيًا لإدراكي سموّ هذه المهنة وعظم رسالتها.
لم أكن لاعب نرد عندما اخترت رفيقة دربي من بين أترابها، إنّما كان ذلك الحدس الذي يصل إلى درجة اليقين في أنها ستكون خير شريكة لي في درب الحياة، متكئًا على معرفتي الكبيرة بأسرتها وما تتمتع به من خلق ودين، فأعانتني على اجتياز كلّ عقبة كأداء، وواجهت معي يدًا بيد موجات الحياة المتلاطمة، فكانت، وما زالت، وستبقى عشقي الذي أسكن إليه يظلني بأفياء وارفة الظلال، ويعطرني بأنفاس الخزامى، ويسقيني من ندى راحتيه، ويدثرني بريف عينيه.
لم تكن رمية نرد عشوائية عندما بدأت مشروع التثقيف الذاتي إلى أن تفجّر مني ينبوع الشعر مع تفجر انتفاضة الأقصى المباركة. لم أكن لاعب نرد عندما قررت دراسة اللغة العربية وآدابها على مستوى البكالوريوس، فالماجستير، فالدكتوراة وأنا في منتصف الخمسينات من العمر. إنّما كان اختيارًا واعيًا لمشروعي العلمي الثقافي -كما كان يسميه الأستاذ الدكتور نهاد الموسى، رحمه الله وأحسن إليه- رغم عبارات الإحباط التي كنت أصفع بها من كثير من المحبَطين والمحبِطين المحيطين بي وقتئذٍ. ليست ضربة حظ أو رمية نرد أن قيّض الله لي كوكبة خيّرة من الأساتذة العلماء الأجلاء أتتلمذ عليهم وأنهل من معين علمهم وثفافتهم.
لم أكن لاعب نرد عندما اختارتني جامعة العقبة للتكنولوجيا رئيس قسم وأستاذًا مساعدًا للغة العربية بعد شهر واحد من مناقشتي رسالة الدكتوراة وأنا في الثالثة والستين من العمر. وجاءت هذه الفرصة نتيجة تعب وسهر لعقود خلون. وكانت – كما قال لي أحد المقربين- مكافأة نهاية الخدمة من رب العالمين نظير ما قدمت من إخلاص ووفاء وحب لطلبتي في أثناء ممارستي مهنة التعليم لمدة اثنين وثلاثين عامًا، حيث كنت أسقيهم القيم الإنسانية،والوطنية، والثقافية مع تدريبات اللغة الإنجليزية.
ولم أكن لاعب نرد أو مقامرًا بأموالي أو تاجرًا يحسب الربح والخسارة عندما شجعت رفيقة دربي أن تبدأ مشروعها العلمي وهي في منتصف الأربعينات من العمر لتبدأ الدراسة في برنامج البكالوريوس، فالماجستير، فالدكتوراة، إنما كان هذا الدعم والتشجيع لأقابلها حبًا بحب ووفاءً بوفاء.
ولم أكن لاعب نرد عندما كوّنت علاقة عشق مع البحر لأربع سنوات أمضيتها في مدينة العقبة، فمنحني من الحب، والحنان، والعطاء، والمتعة، واللياقة البدنية العالية، فأدمنت أمواجه، ومدّه، وجزره، وتوحدت مع أسماكه، ومرجانه، ونوارسه حتى كدت أكون جزءًا من المشهد البحري هناك.
ولم أكن لاعب نرد عندما قررت إنهاء عملي في الجامعة المذكورة بعد أربع سنوات من العمل هناك، إنما كان قرارًا واعيًا لحيثيات الحياة والهدف الذي خلقنا لأجله، ومعرفتي جيدًا حق أنفسنا علينا في أن نمنحها الهدوء، والسكينة، والتفرغ لعمل ما نحب في مرحلة التقاعد الزاهية كألوان بستان متعدد الأزهار والورود.
لم أكن لأقامر بإنجازاتي الأدبية: الشعرية والنقدية عندما كتبت روايتي الأولى (راحابيل) وأتبعتها بروايتي الثانية (تقاسيم على جدار الوهم)، فلم أقتحم جُدُر السرد والعمل الروائي إلّا بعد أن تيقنت من قدرتي على الغوص عميقًا في لُجج هذا اليم السردي وأن أصل بقلمي إلى ضفة من ضفاف الإنجاز والإبداع.
لم أكن لاعب نرد عندما امتطيت صهوة العمل الثقافي في عمان والعقبة بما أتمتع به من إنجازات شعرية ونقدية فتحت لي أبواب المؤسسات الثقافية والتعليمية على مصراعيها. إنه استحقاق قراءة ودراسة وتثقيف ذاتي ما يقرب من الخمسين عامًا.
هذا أنا ... لا أختار إلّا واعيًا، ولا أقرر إلّا مدركًا، أعقل وأتوكل، فأنا لستُ لاعب نرد ... لست
لاعب نرد ... لست لاعب نرد.




وسوم: #لستُ#لاعب


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :