-

المجتمع والناس

تاريخ النشر - 30-01-2022 09:21 AM     عدد المشاهدات 204    | عدد التعليقات 0

مسار حسبان عراق الأمير .. دروب الحضارات العظيمة

الهاشمية نيوز - حسبان عاصمة البلقاء ذات الشان الكبير، بلدة المفكرين وقدوة العلم والدين، أرض الحضارة منذ فجر التاريخ، بيدر قمح الأردن ومناجل حصاد فلسطين، تنازع عليها الأشوريون والفرس والرومان والعرب والبابليون، وصكت بها نقود حملت اسمها الشهير بمعنى التدبير.

مسار بارد ضمن أوقات أربعينية الشتاء «المربعانية»، لذا وجب علينا أن ندرس الحالة الجوية جيداً بما أُتيح من تطبيقات إلكترونية تقدم الحالة الجوية إلى أعشار الدرجات من الدقة، ليكون على مرحلة من مسار درب الأردن المرسوم بعناية منذ تدشينه عام 2017م.

كانت البداية بجولةٍ في تل الحسبان فهو مطل على الشمال الغربي والسهول والبيادر التي امتدت لمشارف العاصمة وجبل نيبو، وطريق ابسوس جريكو القديم، وعيون موسى، وما كان يمر هنا من طريق النصر الشهير، وتل غني بما تعاقبت عليه من حضارات وما نقل من أرضياتٍ فسيفسائية لمتحف مأدبا الأثري المفتوح، ولقىً معروضة بخزائن متحف الأردن بعمان، وهذا ما خططنا له من مسير.

أسماء كثيرة حملتها المدينة التي ولد بها أبي وأعمامي قبل رحيل أجدادنا من «عورتا» في نابلس واستقرارهم فيها والى عمان منذ ما يزيد على 170 سنة، حسبان الاسم المملوكي، واشتق من سابقاته من مسمياتها حشبون ذات الجذر العموني المنتهي بواو ونون عاصمة الملك سيحون ملك الأموريين وذكرت 38 مرة بالكتاب المقدس، لتخضع عام 105م للحكم الروماني كما زارها الأمبراطور أدريانس عندما دشن طريق النصر 130م الممتد حتى العقبة جنوباً وتفريعته منها نحو أريحا وبيت المقدس وميثعه «أم الرصاص».

استكملنا جولتنا بعقود وديار عز مملوكية البناء، ورومانية القواعد والزيتون خرجت من أهاليها رجال علم ودين ذوي ثقة، فمنهم الفقيه الشافعي أبو أحمد بن خليفة بن عبد العالي الحسباني، وهو فقيه الشام بعصره، ونائب حاكم دمشق إبرهيم بن يوسف الحسباني وغيرهم ممن تفقهوا من خلال مدرستها المملوكية ذائعة الصيت بالعصر الإسلامي بأرض البلقاء والشام، وبينها مررنا بإسطبل قديم ومربط خيل، وممن ذكرها وأفرد لها فصولا بكتبه الأصفاني وابن أسباهي والشيخ الربوة بكتابه نخبة الدهر حين وصف المدن المقدسة شرقي النهر، فهذه الديار كانت تدفع خراجا عظيما قدره 2600 أقجة وذلك بحسب سجلات الضرائب للدولة العثمانية التي لم تترك فيها سوى حامية، وهو دليل على مدى خيرها، وخراب لم يعمر بعهد جباته وفارضيه، أما رجالها فقد كانوا قدوة لجميع الشباب في ذلك الحين، ومن أشهرهم رئيس الوزراء سليمان النابلسي 1956م، وكبير مهندسي الوكالة الأمريكية للتنمية والإنماء وهو العم عبدالله العرجان، رحمه الله، والأديب الروائي هزاع البراري، ومن مؤلفاته مسرحية الناي والنهر.

لنبدأ بعدها مسيرنا بين منازل حديثة بلا أسوار، إشارة إلى التآخي وثقة الجار بالجار، ومنها نحو الوادي متخللين عددا من مدرجات المزارع والبساتين والأرض، التي تعصر تحت أقدامنا بما أشبعت من خير السماء وحرارة لم تتجاوز الخمس درجات على طول المسار، مروراً بوادي خنزير وسيل حسبان وعين الفضيلي العذبة التي أعدنا التزود منها مستذكرين قول شاعر الأردن عرار بقوله:

مالي وزمزم ماء غير سائغة فاسقني جرعة من ماء حسبان

كما نظم بها علاء الدين الوداعي المتوفي 716 هجري:

أتيت إلى البلقاءِ أبغي لِقاءكُم فلم أركم فازداد شوقي وأشجاني

فقال ليَ الأقوامُ: من أنتَ راصدٌ لرؤياه؟ قلتُ: الشمسُ قالوا: بحسبانِ

ثم مررنا بسلسلة من الجرون المحفورة بالصخر، فمنها ما كان يستخدم لطحن الحبوب وعصر الزيتون والعنب، أو للصيد بتجمع المياه فيها لاستقطاب الطيور والحيوانات للشرب، ولليوم يستخدمها الرعاة لسقاية ماشيتهم بعد المطر، وقد ذكر المستشرق الشهير تريسترام عام 1872 بعضا من مشاهداته لطيور الحجل والسمان والغزلان وايضاً وثقتها الأرضيات الفسيفسائية بدقة بدير جبل نيبو والمخيط إلى جانب ما كان يعيش هناك قديماً من كواسر ومدى كرم أهلها المعروف لغاية اليوم، حيث وجدت إشارة بأحد الأضرحة تحمل نقشا برمز مهباش ودلة وفنجان والتي تدل على كرم صاحب القبر.

جبال وشعاب وأودية عبرناها واحدا تلو الآخر حتى وصلنا لمنطقة زبود وما يعرف فيها بالقلاع، وهي كتل حجرية ضخمة تنتصب منفردة في السهل كالجدار، وفي واجهتها الجنوبية عدد من الكوات يعتقد أنها كانت مدافن أو لأغراض جنائزية من العصر البرونزي لتكون هناك استراحتنا بجانب فنجان قهوة، ليعيد لنا شيئا من الدفء بمنتصف المسار.

كانت هناك تكوينات متعددة جيولوجية حولنا حيث سميت ايضاً بتكوين حسبان لتفردها بمحتواها، فهي تعود للعصر الترياسي الأوسط المبكر، وأول من اطلق هذا المصطلح هو الباحث وتزل عام 1947 استكمالاً لدراسة كوكس 1924 وفاغنر 1934 وإجماعهم على ما فيها من مستحثات تتكون من محاريات وبطنقدميات ضمن تكوين كربوني من الحجر الجيري، وفي كتاب شرق الأردن للمؤلف سيلاه ميريل عام 1876 ذكر أنه جمع عددا منها وأخذها للدراسة في بلاده.

ومن هناك استكملنا طريقنا نحو بلدة العدسية ومشارف تركي، عابرين الطريق الرئيس للبحر الميت، حيث لم تثننا رائحة خبز الطابون عن شراء مناقيش زعتر وشرب كأس من الشاي من أحد الأكشاك التي كانت وجبتنا الخفيفة قبل النزول لوادي البلدة العميق عبر طريقه الشبه معبد وعلى جانبيه قنوات إسمنتية فاضت بماء العين بخير أسبوع من المطر، لنصل لبطن الوادي، والسيل البارد المحصور بين أعوادِ القصب، والمتجمع من العيون وهو ذو عرض قد تجاوز ثلاثة أمتار، فلا مفر إلا اجتيازه، فاخترنا النقطة التي تكون بها المياه في اخفض نقطة والتي وصلت لمنتصف الساق، هنا قررنا خلع الأحذية، وفضلنا اجتيازه حفاة الأقدام حتى لا تبتل أحذيتنا، فالصعوبة تكمن في أن تجف بهذا الجو غير المشمس، وخصوصاً أنه تبقى أمامنا ما يقارب ثلث المسافة، والتي معظمها صعود حاد للجبل مما يسبب لنا بللها تقرحات بالجلد.

استكملنا طريقنا لنصل في المساء إلى قصر الأمير هيركانوس العموني المنحدر من أسرة طوبيا العربية، ومنه إلى إحدى الاستراحات بقرية عراق الأمير على واديها الأخضر حيث كان العشاء فيها بجانب موقد الحطب مستكملين مسافة 24 كم بمستوى متوسط الصعوبة بسلام ومعنا يكفي مما جمعناه لعمل طبق حويرنة من نبات الموسم.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :