-

كتابنا

تاريخ النشر - 07-12-2021 09:50 AM     عدد المشاهدات 290    | عدد التعليقات 0

(مكتوب ليكَ تعيش رحّال)

الهاشمية نيوز -
عامر طهبوب

«أنا لا أحب السياسة كثيراً، وأحمد الله أنني من أهل الفن»، عبارة قالها أيقونة الفن السوداني عبد الكريم الكابلي للزميلة رفيدة ياسين في حوارات أجرتها معه قبل رحيله.

هرب الكابلي من السودان في زمن حكم عمر البشير إلى الولايات المتحدة الأميركية بتذكرة بلا عودة، لكنه حمل معه على متن الطائرة العود، وصفارة القصدير، وذكريات الطفولة، ورائحة فيافي بورتسودان، عاصمة ولاية البحر الأحمر حيث ولد عام 1932. هرب لأن السودان، الأكبر مساحة في جغرافيا القارة الإفريقية، ضاقت به، أو ضاقت عليه، أو أنه ضاق بها، فرحل. الطبيعي أن يبحث الفنان عن آفاق أرحب تتسع لفنه، وتستوعب روحه الحرة، وفكره المستنير، والأبعاد الإنسانية في ألحانه وأشعاره وموسيقاه.

لا أحد بالطبع يستطيع أن يَلُمّ بأطراف الثقافة السودانية، وليس من السهل على الآذان، استيعاب سُلَّم موسيقي خماسي شاء الاختلاف عن سُلّم العرب برمتهم، فقد انفرد أهل السودان بِسُلّمهِم الذي يَجِد قفلة له عند نهاية كل جملة، فجعل لهم ذائقة خاصة، ولوناً خاص، وآلات موسيقية خاصة، وآذاناً تختلف عن آذان إخوانهم من العرب. اختلفت النغمة، وطالت، فأهل السودان لم يكونوا يوماً على عجلة من أمرهم، ولا أحد يعلم، هل السر في طول السلم، أم طول بال صانعه.

أخيراً غاب الكابلي في ولاية ميتشيغان بعد معاناة مع المرض، وهو يحلم بيوم سوداني سعيد، يرى فيه وطنه باسماً، محرراً من قيود الخوف والصراع على السلطة، وقد رأى فيه الشقاء منذ ولدته أمُّه «صفيّة»، ومنذ تلقى دراسته الأولية في خلوة الشيخ الشريف الهادي، ومنذ وقف يشدو أمام الراحل جمال عبد الناصر عام 1960 أنشودة آسيا وإفريقيا للشاعر الحسين الحسن، بل منذ غنى أمام أم كلثوم عندما جاءت إلى الخرطوم لتغني «أراك عصي الدمع»، فغنّى: «حبيبة عمري، تِفَشّى الخبَر، وذاعَ وعمَّ القرى والحَضَر، وكنتُ أقمتُ عليه الحصون، وخبّأته من فضول البشر، صنعتُ له من فؤادي المِهاد، ووسدّته كبدي المنفطر، وقد كنت أعلم أن العيون، تقول الكثير المثير الخطر، حبيبة قلبي؛ وهل كان ذنبي إذا كنتُ يوماً نسيتُ الحَذَر».

الفنان حالم بالطبع، فكيف عندما يكون من جيل حلم بالوحدة، وتعلق بحركات التحرر، ومسيرات الكفاح من أجل الحرية، والنضال في سبيل الاستقلال، فغنى لعدم الانحياز، ولنضالات شعب الجزائر: «أغلى من لؤلؤة بضّة، صيدَت من شط البحرين، لحنٌ يروي مصرع فِضّة، ذات العينين الطيبتين، ذات الخطوات الموزونة، كصدى الأجراس المحزونة، كلهاة الطفل بقلب سرير، لم تبلغ سن العشرين، واختارت جيش التحرير».

غنى عبد الكريم لمصر رائعته التي لا يُعرف كاتبها: «مصر يا أخت بلادي يا شقيقة، يا رياضاً عذبة النبع وريقة، سوف نجتثُّ من الوادي الأعادي، فلقد مُدَّت لنا الأيادي الصديقة»، وغنى لكل ما هو عربي، وللإنسانية، بل غنى لفلسطين، وقال: إذا كانوا يحاربون بالحجارة، فلا أقلّ من أن نغنّي لهم، وتغزل بحيفا وبَشّرها: «والعائدون أتوا معي، فتبسّمي وتطلّعي، وهو يقول: «بدمي سأكتب يا فلسطين اسلمي، وأموت يا يافا شهيد الوعد، واسمك في فمي، وأخي سيحمل مدفعي، وأبي سيحمُد مصرعي، وأنا على أرض النبوّة، لست أُنكر مضجعي، لبيك يا أرض النبوة، والملاحمُ في دمي، لبيك أرض الله، يا بلد المسيحِ ومريمِ، فإذا قضيتُ لتسلمي، وإذا حييت لتنعمي، فاستبشري وتطلّعي، وتبسّمي، قد جئت من بلدي إليكِ، أموت عنك لتسلمي»، وحتى أنه غنى باللغة اليابانية. كتب الشعر، ولحن لنفسه كما لحن لغيره، واشتغل في البحث والدراسة في التراث الموسيقي، لكن وطنه لم يتسع له، فهاجر إلى الولايات المتحدة التي منحته الجنسية قبل سنوات قليلة على رحيله، وشاء القدر القاسي أن يموت خارج وطنه، ويدفن بعيداً عن «سواكن»، و»طوكر»، و»القلابات» حيث تزوج والده عبد العزيز، وبعيداً عن آسيا، وعن إفريقيا.

لن تنسى الأجيال السودانية المتعاقبة: «زمان الناس، هداوة بال، وإنتَ زمانك الترحال، قِسِمتَك يا رفيق الحال، ومكتوب ليكَ تعيش رحّال، تسافر في الغيوم أشكال، روائع تذهل المَثّال»، ولن ينسوا «سكّر، سكّر»، و»يا ضنين الوعد»، وسيظل هذا السلم الخماسي، يتذكر علماً من أعلامه، كم تتذكر أجيال اسكتلندا، وبورتو ريكو، وإثيوبيا، وموريتانيا، والصين، أعلام نفس السلم في بلدانهم.

سيبقى عبد الكريم الكابلي لأبناء جيله ومن أعقبهم، مُهمّاً، لا يقل أهمية عن النيلين الأزرق والأبيض. غاب وهو يصارع الأحلام، من فرحة عدم الانحياز في زمن القطبية الثنائية، إلى التحرر من الاستعمار، إلى الحكم الديكتاتوري والانقلابات العسكرية، إلى ارتباط الدين بمظاهر التخلف والتطرف، وأزمات الهوية، والإقليمية، والربيع العربي، وفقدان الخرائط السياسية، وحالة «التوهان» التي تعيشها الأنظمة العربية، وهو ما زال يحلم بالحرية والديمقراطية والتعددية واحترام الاختلاف، وينتصر للأنغام لا الألغام، في كتاب ودّع فيه الإنسانية، وقف على مشارف الذاكرة، ليُلقي مجموعة من أسئلة القلق على شعوب فقدت الدهشة، والوعي، والأمل، والإدراك، والأذن، والسُّلّم، واستقرار الحال، و»هداوْة البال».






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :