-

كتابنا

تاريخ النشر - 30-04-2021 09:59 AM     عدد المشاهدات 335    | عدد التعليقات 0

السيّد نقاط ( .. )

الهاشمية نيوز - ليلى جاسر سلامة
في صبيحة أحدِ الأيام، تلكأت الشبابيك في كشف اللثام عن وجه الشمس، لا أنا ولا فرج الغول لنا شبابيك... مع أنّ «الدنيا كلها شبابيك».
بأكتاف منحنية ننفذ بشقِّ الأنفس من مسكننا القابع أسفل الدرج لنعبئ صدرينا بأنفاس الصبح في عزلته. مُكتِّفًا عينيه والندى الماثل فيها سحب فرج نفسًا طويلًا سرى في شرايينه فتمثّلت في خياله صبية حلوة مزيّنة بأطواق الفل والياسمين تحملُ أعواد الخيزران، لكنّ اتصال زوجته قطع أنفاسه. ودون تحيّة تقول له: المعلّمة تلقب ابنك الكبير عريف بــ (السيّد نقاط...)، ماذا أفعل؟ المعلّمة لوّحت له بعصا خيزران، لأنّه يكتب اسمه السيّد نقاط (...) على أوراق الاختبار، ما ذنبي أنا، فأنا كما تعرف لا صبر عندي، ولا يمكنني أن أعلّمه حتّى كتابة اسمه. اكتفى فرج بالصمت لدقائق معدودة، ثمّ عقّبَّ قائلًا: ابني عريف أبو العُرّيف، يُعلّم كل أولاد المخاتير..، وراح يسألها متعجبًّا: هل سألته المعلّمة ماذا يودُّ أن يصبح عندما يكبر؟! نعم، أجابت الزوجة. استفسر فرج: ما جواب أبو العرّيف؟!...امتدت «هااااا» طويلة من فمها وانتهى الحوار. عَتَقَ فرج نظره بعيدًا فَعلِق بعصي خيزران تزيّن سور إحدى حدائق البيوت مدّاحة الشمس فتذكّر سور المدرسة. أغلق الهاتف وطوى كومة أوراق ثمّ وضعها في كيس أسود وربطه بإحكام. مرّت ليالٍ سوداء وأخرى قمراء... مرّت علينا كأنها أمسية نقضيها بتقشير بذور عين الشمس. يخرج كلانا باكرًا، متجهيْن معًا إلى الكشك القريب نحتسي الشاي ونمضي في دروب الحياة نضربُ الاتجاهات ونستعين على الشقاءِ بالله.
أذكرُ المرة الأولى التي أتى فيها إلى هنا، كان مفترشًا الأرض بجانب المقعد أسفل شجرة عارية واضعًا حذاءه فوق رأسه وسترته معلّقة على جذع الشجرّة. طلب جرعة ماء، فهكذا يكون الإنسان غريبًا في داره. أسكنته معي إلى أن يُأذن له ويخمّن اتجاه بوصلته. كان ثمّة شيء يطويه كل ليلة، أوراق ومكاتيب ومظاريف وعليها كلمات كتبت من اليسار إلى اليمين، وثمّة أشياء أخرى؛ يرتدي فردة حذائه اليسرى برجله اليمنى، سترته مقلوبة، عقاله أسفل غطاء الرأس، كلامه مرتدٌ للوراء قليلًا يبتلعه، قلبه يسكن جسده الأيمن، يُمرّن عنقه على الالتفاف، يمشط شعره بمقبض الفرشاة، ومما يثير الضحك أنّ فرج كان يقول «دستور يا عرب» وهو خارج، ومن غرائبه أيضًا أنّه كان يضع الملح في الشاي والسكّر على البيض... ومن عجائب الأمور أن ثمّة رابطًا متينًا جمع بيننا وحرّك الزمن على الوتر؛ كلانا يمارس عادة مماثلة بأن يشدّ الحزام فوق الخصر والبنطال حر. في أول أيامه احتار عقلي فيه؛ يُغشّي الضباب صفحة وجهه فلا ابتسامة له ولا حتى شخير، ولكن مع مرور الوقت بانت دموعه وصحّاه عجب المدن. بقي على حاله الغريب يرتدي بذلته برفق، يمسح حذاءه بنقطتين من الزيت ويلمّعه جيدًا، ثمّ يطارد المجهول عبر تعرّجات المكان، يضبط ياقته وأكمامه، يتعب من المسير فيلتقط كيسًا أو صفحات جرائد متطايرة في الهواء ثمّ يبرك فوقها، ينهض ثمّ ينظر وراءه ليتأكد أنّ سحّاب بنطاله لم يفلتْ، لا يبرح شوارع المدينة بل تظلُّ قدماه تخطّان النقاط فوق أي سطح ممكن، لأنّ أخمص حذائه لا يترك أثرًا أو علامة في الأرض، حذاءٌ بلا تضاريس. يلجُ كل عمارة يعلوها علم؛ فكما أخبرته: إنّ العلم هو دليلك! في السنوات الثلاث الأولى واظب فرج على رحلته اليومية مكتسيًا البدلة ذاتها حاملًا بيده كيسه الخفيف المعبأ بالمكاتيب، يفرغها في صناديق أي مبنى يرفرف على سطحه علم. في البداية خمّنتُ أنّ تلك الرسائل ربّما طلبات تسجيل أرضه، أو طلب توثيق اسم العائلة، أو تغيير تاريخ الميلاد، ولربما طلب إصدار شهادة حسن سيرة وسلوك، أو تغيير عنوان، أو إثبات جنون... فكّرتُ في احتمالات كثيرة جدًا. وفي إحدى المرّات عاد في المساء وحينذاك كان قد أَلِفَ عتمة الدرج وإنارة الحي الخافتة والشوارع المحيطة وأعواد الخيزران الناعمة وما يلي ذلك، ولكنه لم يشعر بأنّ هناك ورقة عالقة بسترته كأنّ أحدًا ثبّتها بدبّاسة، وكانت المفاجأة أنها رفرفت ثمّ هبطت في صحن الشوربة الذي أمامي وأخذت تطفو عليه، ولكن لم يكن ثمّة كلام كثير أو خطوط أو علامات ترقيم أو توقيع أو حتّى تاريخ، فقط كُتب عليها عبارة «سألني المعلم ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ قلتً له: أريدُ أن أمشي بالعكس!، فلوّح بعصا خيزران جعلتني أطيرُ فوق السور بلا عودة»
قلبتُ الورقة وجعلتها تغرقُ في طبقي، تدلّى عنقي إلى أبعد نقطة ممكنة، انفرجت عيناي وبحلقتْ بنقاط محبوسة بين قوسين (...) أخذتْ تطفو بالعكس.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :