-

المجتمع والناس

تاريخ النشر - 10-02-2020 09:30 AM     عدد المشاهدات 369    | عدد التعليقات 0

حكايات بابور مؤتة مطبوعة على جدرانه القديمة

الهاشمية نيوز - بقي بابور مؤتة لطحن القمح شاهداً على حقبة زمنية عاشها الأوائل، بحلوها ومرها، في أربعينيات القرن الماضي؛ وهو ما يزال على قِدمه بآلاته العتيقة، يؤدي وظيفته بذات النسق وإن طرأ عليه بعض التحسينات، كتحويله للعمل على الكهرباء بدل السولار.
تكمن أهمية البابور الذي تعود ملكيته للحاج عبدالسلام الصرايرة، أنه مصدرا لصنع أهم غذاء لعديد أهالي الكرك وهو الخبز؛ ففي أركانه العتيقة تفوح رائحة الطيبة والبساطة والتعاون، ممزوجة برائحة دقيق القمح البلدي.
فالناس في تلك الحقبة يعيشون حياة بسيطة ليس فيها تكلّف أو غلو، يعتمدون في تأمين غذائهم على كدّ أيديهم، فهم من يزرعون القمح ويحصدونه، ثم يأتون به إلى مطحنة الصرايرة الواقعة في بلدة مؤتة لطحنه وسط زحام كبير.
معظم الذين يقصدون المطحنة، يبدأون نهارهم فجراً، حتى يتمكنوا من إنهاء مهمتهم قبل غروب الشمس، فالغالبية يقطعون مسافات طويلة لنقل قمحهم على ظهور الدواب، ثم يدخلون عبر البوابة الخشبية العالية، ويفرغون أكياسهم الذهبية في مكان مخصص لحساب الكمية، فضلاً عن إضافة ملح الطعام.
فصاحب البابور لا يتقاضى أجوراً نقدية، إنما يُدفع له قمحاً وهو ما يطلقون عليه (الرّد)، وتكون القيمة حسب كمية القمح الذي يُكال بواسطة (النص مدّ)، وهو عبارة عن وعاء خشبي يقوم بمقام المكيال.
دلالة وجود البابور تعكس حالة الناس المعيشية، فهم يعتمدون على الفلاحة بالدرجة الأولى وتربية الأغنام والأبقار؛ فكان القمح أهم عنصر في إنتاجهم، لأنهم يُقايضونه باحتياجاتهم التي لا ينتجونها، (كالشاي والسكر والملابس...).
أصبح البابور مألوفاً للسكان في تلك الفترة، وقد اعتادوا عليه وعلى ما يصدره من هدير يمنع سماع (الطحّانين) بعضهم لبعض؛ وهو يتكون من المحقان المعدني أو القمع الذي يُنصب فوق سدة حديدية مرتفعة عن أرضيته قرابة المترين؛ وفي أسفله طاحونتان ضخمتان من حجر البازلت، تستقبلان حبات القمح بهدوء لطحنها، على مبدأ آلة الطحن اليدوية (الرحى)، بحيث تدوران بواسطة أقشطة مرتبطة بمحرك عملاق، ثم يخرج الطحين من فوهة مخصصة ليملأ بالأكياس المعلقة بها.
ليس بابور عبدالسلام الصرايرة هو الوحيد في محافظة الكرك؛ بيد أن هناك بوابير خمسة منتشرة في مناطق عديدة منها: بابور الطراونة وبابور المجالي وآخران في حي الحباشنة، وبابور الصناع؛ فكانت هذه البوابير محجاً للفلاحين من مختلف القرى المجاورة لمركز المدينة.
أيضاً توجد بوابير قليلة في بعض القرى البعيدة، وكذلك توجد طاحونتان لطحن القمح في سيل الكرك تداران بقوة المياه، وهي أصغر حجماً من البوابير الأخرى.
من أهم الوظائف في البوابير (القعيدة) وهو الذي يقوم بتفريغ القمح في المحاقن، ثم يُراقب عملية الطحن، وكان أيضاً يمسك بيده عصا خشبية يضرب بها بقوة على الوعاء الدائري الذي يضم حلقات البازلت الدوارة، ثم يُعاين درجة نوعمة الطحين.

الأهمية الكبيرة لهذه الآلة البدائية كانت مثار جدل الناس، ومقراً لتجمعهم وتبادل أطراف الحديث؛ فبالإضافة إلى أجواء عملية الطحن وما رافق ذلك من معاناة وتعب، إلا أنهم يشعرون بسعادة ورضا وراحة بال.
ذكريات بابور مؤتة ما تزال عالقة في أذهان من ألفوه ذات زمن، فهم يحاولون زيارته ليعود بهم الزمن، خاصة وأن البابور ما يزال يعمل حتى الآن، ويقوم بالدور القديم، فهو يطحن القمح بأنواعه (القطما والصفرا) ويجرش القمح والعدس في آلة أصغر تسمى الجاروشة.
لم يُرد صاحبه التفريط به، بل تركه على حاله ليتوارثه الأبناء من بعده، فهو يريده شاهداً على مرحلة طيبة كان الناس فيها كالإخوة، فالتعاون من أميز صفاتهم؛ فيما يحاول البابور أن يبقى على ألقه بسبب الطلب على طحن مادة القمح البلدي لكثير من المواطنين.
كانت البساطة في التعامل تظهر من خلال المكاييل السائدة حينذاك، ومنها: (المد) بوزن 18كيلوغراما و(العلبة) ثلاثة أمداد و(الكيل) ستة أمداد و(العشراوية) عشرة أمداد و(الصاع) كيلوا غرام و(الربعية) ستة كيلو غرامات، و(نصف المد) تسعةكيلو غرامات.
أهالي القرى المجاورة لبابور مؤتة، ينظرون إليه كتراث جميل، وهو لم يتوقف عن العمل، فالحياة ما تزال تنبض في أوصاله؛ فهل يبقى شامخا ليروي أجمل الحكايات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :