-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 20-12-2018 10:52 AM     عدد المشاهدات 461    | عدد التعليقات 0

(الحنونة) .. حارسة الذاكرة .. !

الهاشمية نيوز -
علاء الدين أبو زينة



مما يُحسَب لفرقة جمعية الحنونة للثقافة الشعبية الفلسطينية قدرتها على الصمود والاستمرار خمسة وعشرين عاماً طويلة في ظروف لا تخفى صعوبتها. وقد توقف الكثير من التجارب التطوعية التي خاضتها فرق فلسطينية بعد فترة أو أخرى من العطاء، لأسباب تتعلق بالتركيبة والخط التعبيري الذي اختارته ومختلف المتغيرات. وفي المقابل، لم تستغرق فرقة “الحنونة” في إذاعة مضامين شِعارية مرحلية يمكن أن تتأثر –عاطفياً وموضوعياً- بمد وجزر الحراك النضالي الفلسطيني، وإنما تخصصت بالأساس في حفظ التراث الموسيقي والغنائي الفلسطيني الشفهي –بالإضافة إلى مكونات تراثية أخرى، مثل الأزياء والطقوس والعادات. وهي شؤون لا تتأثر بحالة المعنويات الظرفية. وعلى سبيل المثال، تأثر نشاط فرق فلسطينية مهمة أخرى عندما أصبح الخطاب الذي تتبناه –الكفاح المسلح مثلاً- متعارضاً من سياسة المؤسسات التي ترعاها؛ أو عندما لم يعد التغني بالبطولة ممكناً في أوقات الهزيمة، أو عندما تعذر العثور على مضمون يمكن أن يجد صدى في محيط يعوزه اليقين؛ أو، ببساطة، عندما ينشغل الأفراد المتطوعون بشؤونهم الحياتية وتتغير الظروف واللوجستيات.
لكنّ عمل “الحنّونة” على التراث الذي لا يتأثر بأي متغيرات ميزها عن الآخرين. وليس العمل على التراث سهلاً، وهو يحتاج إلى شقّ بحثي وتوثيقي منهجي، يتضمن تحقيق المرويات والبحث عن التنويعات في تراث عميق زمانياً وعريض تكويناً، بحيث لا ينفصل الجهد البحثي عن بنية التعبير الفني. كما استطاعت “الحنونة” أن تصبح مؤسسة بتعريف وغايات، بحيث يأتي المشاركون ويغادرون دون أن يمسّ ذلك بالتكوين الذي كسب حياة بنفسه، في اختلاف عن المشاريع الأخرى التي ظلت فردية يتأثر وجودها بانشغالات أصحابها أو تغير مزاجاتهم وظروفهم. ومع أن مؤسسية “الحنونية” على هذا النحو ميزة، فإن إدامة مشروع بهذه السوية كل هذا الوقت دون الارتباط بتكوينات أكبر تدعمه مالياً وتعينه دعائياً ليست مهمة سهلة على الإطلاق. لكن تحرر الإرادة يستحق العناء.
ربما كان عمل “الحنونة” في التراث أكثر استراتيجية وأقل تكتيكية من تجارب فنية فلسطينية أخرى، كما يقترح وصف نشاطها: “حراسة الذاكرة”. وفي حين أن الشعوب الأخرى تمارس تراثاتها بطبيعية وتعرضها كجزء من التعبير عن هوية مستقرة، فإن الشعب الفلسطيني لا يمتلك هذا الترف. إنه شعب أرضه محتلة ونصفه منفي، ويواجه هجمة وحشية هدفها إبادته، وجوداً وثقافة. ولذلك يخوض صراع هويات في الأساس. لذلك تشكل حراسة الذاكرة الفلسطينية مهمة حاسمة أمام هجوم عنوانه طمس وإلغاء هوية أصحاب الأرض وشطبهم من التاريخ.
ما يزال الجزء الصامد من الفلسطينيين في الأرض المحتلة متصلاً فيزيائياً بالجذور، ولم تنقطع –ولو أنها تشوشت بفعل الاحتلال- استمرارية تدفق الروح الفلسطينية في الأرض والناس والعاطفة. لكن أجيالاً من الفلسطينيين ولدت في المنافي، مقطوعة عن الجذور ومحرومة من الاستقرار الذاتي الخاص الذي يوفره العيش في الوطن. وفي هذه الأجيال توقٌ طبيعي إلى التقاط أي وكل مكونات ممكنة للهوية واستجماع شتات الذات المشوشة. وربما يكون للفلسطينيين في المنفى إحساس لا مثيل له تجاه أشياء هي للآخرين عادية، مثل مشاهدة الزي التراثي الفلسطيني أو الدبكة الفلسطينية، أو سماع اللهجة الأصلية وأغاني العرس والأفراح. وهي كلها تعبيرات مبكية مفرحة، لأنها إشارات للحيوية الوطنية بقدر ما هي تذكير بالضغوط على هذه الحيوية المهددة.
يشعر الفلسطيني بالفقدان والخطر عندما ترحل الأمهات اللواتي كن يلبسن الثوب الفلسطيني ويذهب معهن هذا المظهر، أو عندما يقل تردد أغاني العرس الفلسطينية في الأفراح – بل وربما يشعر الفلسطيني بالتقصير إذا لم يكن يعرف المشاركة في الدبكة الفلسطينية، أو لا يفهم اللهجات الأصلية أو يجهل العادات. ولذلك، يخفف عمل “الحنونة” من غربة الفلسطيني المنفي ويقيم له الصلة مع ذاكرته الوطنية الجمعية، وربما يعوض تقصيره الشخصي في التعبير الضروري عن الحضور الفلسطيني، بخصوصيته وشارات هويته المختلفة التي يتخذ وجودها أهمية وجودية.
لذلك وأكثر، كل التقدير للعمل الكبير الذي تؤديه “الحنونة”. والأمنيات، لمناسبة ذكرى تأسيسها الخامسة والعشرين، بالكثير من العودات، واستمرار العطاء والنجاحات. غني وكثير الألوان هو التراث الفلسطيني.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :