-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 13-12-2018 10:44 AM     عدد المشاهدات 502    | عدد التعليقات 0

الودع لا يكشف الوقوع في الحب

الهاشمية نيوز -
رمزي الغزوي



كان الغجر يحلون على قريتنا في مواسم الزيت وبواكير الشتاء. يضربون خرابيشهم الملونة، وخيامهم الصغيرة، في السهل الواسع بحمى أشجار الزيتون، وكنا نهبّ لنعاونهم بنقل الماء، أو سرقة ما تيسر من حطب أسيجة الجيران؛ عربوناً لمحبة أو مفتاحاً لتعارف يتجدد.
الفرح كان يملؤنا حتى تراقينا ويغمرنا لشوشة رؤوسنا، نحن الأولاد الممزوجين بالطيبة وبشرارات العشق الأولى. وكل حين، وفي غمرة انشغالنا بوصولهم البهي، كان يهمزني قلبي الخجول: هل عادت غجرية العام الماضي؟!، أتراها كبرتْ بما يكفي ويشفي؟!، أم غدت ظفيرتها أرجوحة لحلم يطير؟!.
الغجر يحيلون قريتنا نشاطاً ومرحاً. الكل يقصدهم. هذا ليركِّب أسناناً ذهبية، بدل المنخورة الآيلة للخراب والسقوط، وآخر يروم أن يشحذ فأسه وسكين مطبخه، وامرأة طاعنة في البركة ستطلب غربالاً للقمح، وأخرى ستبيّض أوانيها النحاسية؛ لتعود لامعة كعروس الكرد.
ونحن كان يعجبنا، أن تعطينا الغجرية العجوز غليونها القصب الطويل، ننظر يمنة ويسرة، ثم نعبّ الدخان ساعلين بعيون دامعة، غير آبهين باختناق أزرق، لنطلق سحابةً بيضاء، نخالها ستمطر رقصاً على عتبة الخيمة.
وكان يعجبنا أكثر، أن نساعد الحداد الرزين، فننفخ له الكير (الفرن)، ونراقب الحديدة المسكينة كيف تغدو دماً ملتهباً بين الجمرات النزقات، ثم تصير فأساً أو سكيناً بعد ضربات المطرقة. فيا ذا الحداد الأبله. ماذا ستصير قلوبنا الملتهبة، إذا ما ضربتها يوماً مطارق الحب الحنونة؟!.
وكثيراً ما كنت أتصنم قبالة الصانع الحاذق، صاحب الشعر الأبيض المجعود، إذ يصنع خنجراً من قرن كبش. وكم تمنيت لو أتحزم بهذا الخنجر العنيد، وأقتحم عين الشمس، وأنحرها قرباناً لغزالة لم تعد هذا العام مع خيام الغجر. غزالة كان لها مذاق زيت هواوي ممطور.
الغجريات يجبن الحارات والطرقات ويطرقن البيوت، يبعن الإبر، والأمشاط الكفية، وعلكة البطم والحناء وأقراط الفضة، ومنهن من يقرأن الحظّ بالودع (أصدف البحر)، ويجلبن السعد للمحرومات. وذات كانون بعيد، تطلب أمك من غجرية أن تقرأ بعض حظك، لقاء خيط من زيت. الغجرية ترمي ودعها على صفحة التراب في قاع الدار، مرة إثر مرة.
تنظر قارئة الحظ في عيني ملياً، وكأنها تأكلني. ثم تبتسم بطرف شفتيها الرقيقتين السمراوين، وتقول لأمي بعصبية: ولدك عفريت. يحلم بأجنحة سفر، فلا تدعيه يطير من تحت جناحك.
أفرح بسري، أن الغجرية الخرقاء، لم تقل لأمي شيئاً بشأن الوقوع الجديد في الحب، أو أن ودعها الغبي لم يكشف خبايا الأمس أو الهمس. فأمضي منتشياً متلمساً قلباً يلتظى في كير صدري، سأظل أطرقه بريش الشعر؛ كي يغدو خنجراً يذبح شمس الغياب.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :