-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 02-04-2019 11:06 AM     عدد المشاهدات 486    | عدد التعليقات 0

أغنية من زمن القمح

الهاشمية نيوز -
رشاد ابو داود

زمان لم تكن شوارع القرى مسفلتة لكن الحياة كانت ميسرة. لا تحتاج أن تسرع لتصل. الطرق الى الحقل والى المدرسة والى الدكان كانت قصيرة. لكن منذ أن «سفلتوا» الشوارع طالت الطرق وتعبت الاقدام من الجري وراء الرزق الذي كان في متناول الفم. مسافة مبهجة مطرزة بأغاني الفلاحين وتنهيدات العشاق بين البيت و الحقل.
في الستينيات و السبعينيات كنا ندندن بأغنيات نسمعها من الراديو قبل أن يقتحم التلفزيون بيوتنا. أغنيات تسمعها في برنامج صباح الخير فتظل عالقة على لسانك حتى المساء. وبعد سنوات طويلة تجدها قفزت من الذاكرة لتعود تدندن بها.
ذات يوم كان المرحوم الصديق الكاتب القومي جورج حداد يشرب معي القهوة في مكتبي بالدستور، وكانت أغنية من الزمن الجميل عالقة كنقطة عسل على لساني تقول كلماتها :
لوحي بطرف المنديل مشنشل برباع
يم رموش الطويلة و عيون وساع
مزيونة وسكنت قلبي تتلاعب فيه
ساعة تقوله يا ربي و ساعة تهنيه
معها تايه دليلي وقلبي مرتاح
يم رموش الطويلة و عيون وساع
قلت لجورج : لا أجمل من أغاني زمان. انتفض كعادته، رحمه الله، وبصوته المقاتل قال : ولك يا رشاد هاذي كلماتي. كتبتها عندما كنت في الاذاعة. وغناها توفيق النمري.
فرحنا معاً. أولا لرائحة الزمن الجميل. وثانياً اننا وجدنا مشتركاً آخر بيننا و هو فهم حقيقة الصراع في المنطقة واساسه الصهيونية العالمية، والأمل بالعروبة التي اختارها الله لآخر الأديان السماوية.
للأغنية حكاية رواها توفيق النمري وهي أنه تلقى اتصالا من المرحوم وصفي التل، حين كان مديرا للتوجيه الوطني المسؤول عن الإعلام منتصف الخمسينات، وطلب منه المرحوم التل التلاقي أمام الإذاعة بصحبة الكاتب جورج حداد، وحين التقوا، أخبرهم وصفي أنه كثيرا ما يدندن لحنا مع كلمات كان يسمعها في طفولته بالأعراس الحورانية حيث نشأته، وكانت كلمات الأغنية مجهولة المصدر توحي بأجواء الحرب العالمية الثانية، والتي يبدو أن كاتبها المجهول تأثر بما يسمعه من إذاعة برلين العربية وقتها فكتب يقول :
يا أم العرجة الغوازي والجنيديات
يخضعلك جيش النازي والولايات
عصمت إينونو وهتلر ليكي خدام
والجيش السابع والثامن للتحيات.
لقد رأى الفلاح البسيط في محبوبته القروية البسيطة ما يفوق كل معطيات الحرب العالمية الثانية من شخصيات وأحداث وقطع عسكرية ودول وأنظمة، فرأى فيها ما يخضع ألمانيا والولايات (حلفاء ومحور مرة واحدة)، و بدأ بالأسماء عصمت إينونو من تركيا وهتلر يخدمون محبوبته في بيدر قمح، كما يقف الأسطولان السابع والثامن لتحيتها. فكتب جورج الكلمات وغناها توفيق النمري وبعده عدة مغنين. ولم نزل نحنُّ اليها، نحن جيل زمن القمح والزيت و الزيتون والمحبة الاوسع من الأفق.
ذكرني بحكاية المنديل المشنشل برباع وحكاية الفلاح البسيط الذي كانت محبوبته أهم عنده من هتلر والمحور و طبول الحرب العالمية، هذا البساط الأخضر الذي يغطي الأرض من العقبة الى الرمثا مروراً بالطفيلة ومادبا ومعان و جبال عمان وجرش و عجلون وسهول اربد. تلك الأيام التي لم يكن فيها لصوص نهار وفاسدون يسرقون اللقمة من فم الفقراء. كان القمح يكفي الجميع، الوطن للكل والكل للوطن.
أتذكر تلك الاغنية التي كنا نرددها و ندبك على لحنها في ليالي الزرقاء المقمرة، لكأنها رثاء متقدم لحالنا اليوم :
يابو رشيده قلبنا اليوم مجروح
جرح غميق وبالحشا مستظلي
جابوا الطبيب ومددوني عاللوح
قلت برخا لما عشيري يصلني.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :