-

مقالات مختارة

تاريخ النشر - 15-11-2021 10:43 AM     عدد المشاهدات 271    | عدد التعليقات 0

ضياع (حمدان)

الهاشمية نيوز -
عامر طهبوب

شكلت المقاهي في عدد غير قليل من الدول العربية، جزءاً من التاريخ الثقافي والذاكرة الوطنية. مقاه تعدى دورها ما كان لغيرها من وظيفة تتمثل بسد أوقات الفراغ وتناول الشاي والقهوة، أو ما نراه اليوم؛ ملتقى لتدخين الشيشة وإضاعة الوقت لحديث لا طائل وراءه في أحيان كثيرة. بعض المقاهي كان لها أثر وأي أثر، ففي مصر مثلاً، لا يمكن الحديث عن الحياة الثقافية والأدبية فيها دون الوقوف عند مقهى «الفيشاوي»، أو «ريش» اللتين كانتا ملتقى كبار الأدباء والمفكرين أمثال نجيب محفوظ، وأنيس منصور، ويوسف إدريس، وغيرهم كثير.
وفي بغداد تقفز إلى الذهن المقهى «البرازيلية» التي ولدت على مقاعدها حركة الشعر العربي الحديث من خلال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وعبد الرزاق عبد الواحد، وبلند الحيدري. وفي دمشق عقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي في مقهى الرشيد الصيفي الذي شغل الآن مكانه المركز الثقافي الروسي. وهناك مقهى «الهافانا» الذي كان مكاناً ثرياً لكبار الأدباء والمفكرين السوريين والعرب أمثال محمد الماغوط، ومظفر النواب، وزكي الأرسوزي، وهاني الراهب. ويوم قرر صاحبه تحويله إلى محل للألبسة، عارضه المثقفون السوريون، ما دعا وزارة السياحة السورية إلى شراء المقهى، وإجراء العديد من التحسينات عليه ليظل منتدى يحمل عبق الماضي ومثقفيه.
وأما في عمان، فلا يمكن للمرء أن يتحدث عن ذاكرة الأردن وتطوره السياسي والاجتماعي المبكر دون المرور على مقهى حمدان في وسط البلد، ففي هذا المقهى عقد المؤتمر الوطني الأول في الخامس والعشرين من تموز 1928 بحضور مائة وخمسين شخصية من رجالات العشائر والسياسيين والمثقفين ورجال الدين، وضعوا فيه «الميثاق الوطني» الذي نص على تأكيد البيعة لسمو الأمير عبد الله بن الحسين - الملك المؤسس - طيب الله ثراه، وانتخب المؤتمر يومها حسين باشا الطراونة رئيساً، وسعيد المفتي نائباً للرئيس.
اندثر مقهى حمدان بعد أن تم توسعة الطريق المحاذي لسوق الصاغة في اتجاه طلوع الشابسوغ وشارع الملك الحسين، وتعرض مقهى «الجامعة العربية» المقابل للمسجد الحسيني الكبير للإهمال. تلك مقاه كانت بمكانة مجالس أمة، ووزارات ثقافة، ومنتديات فكر، لم يتم الحفاظ عليها، وحفظ ذاكرتها ورجالاتها، وما تشكله من محطات وركائز مهمة، رافقت مسيرة تاسيس الدولة الأردنية، يوم كان الرواد الأوائل يستمعون إلى إذاعة الشرق الأدنى من يافا، أو يطربون إلى صوت المطربة الحلبية زكية حمدان، أو يؤيدون قوات الحلفاء أو دول المحور.
وإذا كانت الظروف العمرانية قد أدت إلى اندثار فندق فيلادلفيا الذي افتتح عام 1928، أو مقهى حمدان، أو إهمال مقهى الجامعة العربية، فإن من حق الأجيال الجديدة أن تتعرف على تراث وثقافة وتاريخ البلاد، ولا أقل من ذلك لإنشاء مقهى على غرار مقهى حمدان بنفس طرازه المعماري القديم حتى لو كان في مكان آخر في قلب المدينة. مقهى يخلد فترة مفصلية من حياة الأردن تطرز جدرانه صور الرواد الأوائل من أمثال حسين باشا الطراونة، وسعيد المفتي، وسيدو الكردي، وعلي الكردي، وهاشم خير، وطاهر الجقة، وشمس الدين سامي، وشاهر الحديد، وطارق سليمان، ومثقال الفايز، وحديثه الخريشة، ونمر الحمود، ونمر العريق، وسالم أبو الغنم، وماجد العدوان، وسليم البخيت، ويوسف طنوس، وراشد الخزاعي، وسليمان الروسان، وعلي نيازي التل، وعبد العزيز الكايد، وسلطي الإبراهيم، ومحمد العيطان، وعطوي المجالي، وعطا الله السحيمات، وسلامة الشرايحة، ومصطفى المحيسن، وحمد بن جازي، وإبراهيم الوارد، وخشمان المحاميد، ومحمد قباعة، وعبد الحليم النمر، وعلي خلقي الشرايري، وغيرهم كثير.
فرق كبير بين مقاهي الأمس ومقاهي اليوم. مقاه لاستثمار الوقت والمكان للنفع العام، ومقاه لقتل الوقت. وبالمناسبة، فإني أجلس الآن وحيداً في مقهى لكتابة هذه المقالة، مستذكراً محمود درويش وهو يقول: مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ في الركن منسياً، فلا أحدٌ يُهين مزاجك الصافي، ولا أحدٌ يفكر في اغتيالك، كم أنت منسيٌ وحُرٌ في خيالك.




وسوم: #ضياع


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :