-

كتابنا

تاريخ النشر - 02-12-2020 10:59 AM     عدد المشاهدات 623    | عدد التعليقات 0

تماثيل عين غزال .. الأسلوب والتعبير

الهاشمية نيوز - الباحث الأكاديمي والفنان التشكيلي زيد عدنان

يعد موقع عين غزال الاثري من المواقع الكبيرة والمهمة في الاردن، والذي يرجع تاريخه الى العصر الحجري الحديث حقبة ما قبل الفخار، تم اكتشافه بالصدفة اثناء شق الطريق الرئيسي بين العاصمة عمان ومحافظة الزرقاء، ومن خلال سلسلة الحفريات الاثرية في ثمانينيات القرن الماضي تم اماطة اللثام عن مجموعة من المنحوتات ومن بينها تماثيل جبسية بلغ عددها 36 لهيئات واشكالا ادمية يمكن تقسيمها الى مجموعتين وحسب ارتفاعاتها ، الاولى تتراوح مابين 80 سم الى 90 سم والثانية مابين 30 سم الى 45 سم، مع مجموعة من الاقنعة.

اكتسبت هذه التماثيل اهمية كبرى في المنطقة والعالم وتناولتها العديد من البحوث العلمية والمقلات الصحفية، وجاءت بمعظمها لتسلط الضوء على الجانب التاريخي والوصف الخارجي للاشكال والمواد الداخلة في تصنيعها، بينما لم ياخذ الجانب التشكيلي الاهتمام الذي يستحق من تحليل معمق للاسلوب الفني والتعبيري.

يمكن وصف الاسلوب بانه العملية البنائية للتعبير والذي يتسم بعدد من السمات التي تميزه عن الاساليب الاخرى، ويتاثر الاسلوب الفني بشكل مباشر بخبرات الصانع او الفنان، وكذلك فان البيئة والعوامل السايكلوجية النفسية والسوسيولوجية الاجتماعية لها بالغ الاثر في تحديد الاسلوب واتجاهاته، اما التعبير الفني فهو مصطلح يحتوي الكثير من الديناميكية والقوة والتاثير ويشكل احد الاعمدة الاساسية لانتاج اي عمل فني لايطابق ما موجود في الطبيعة، وهذا يعني بانه يرتبط بشكل راسخ ومتين بالاسلوب والاداء، وهو احد الاسس الكامنة في الفن ويقف بجانب الصورة اي الشكل الخارجي والمادة التي تشكل هيئة العمل، فلا وجود للمادة الا من خلال الصورة ولا تعرف الصورة الا بالمادة والمنظم بين هذين العنصرين هو التعبير الذي يقوم على اتجاهين، الاول يمثل المستوى الفكري الذي يؤسس الاشكال المراد انتاجها فنيا من خلال الصورة الذهنية المتخيلة، والثاني يشكل الجانب التطبيقي العملي الذي نلاحظ تشكيلاته وتمظهراته من المواد المستخدمة في العمل.

وفي العصر التاريخي الذي نتكلم ونبحث فيه، سادت معتقدات تقديس الالهة الام التي تمثل الخصب والوفرة، وانتشرت بشكل واسع عبادة الاسلاف، ومع استمرارية الافكار بالتبلور نتيجة للاستقرار الذي وفرته الزراعة، تمخض ذلك فكريا عن تطورات ضغطت باتجاه بناء مزارات دينية تطورت فيما بعد لتكون معابدا دفعت وحثت لانتاج اعمال فنية اخذت ثلاثة اتجاهات رئيسية، اولها تماثيل لاغراض طقوسية واخرى لاغراض تعبدية وثالثة لاستخدامات سحرية، وتتلخص فكرة مثل هذه النتاجات الفنية بانها تجسر نظاما من العلاقة بين قدسية الافكار وقدسية الاشكال بوصفها مخابئ تسكن او تحل بداخلها الارواح، فارتقت من شكلها الخارجي الى تماثيل تعبر عن كينونتها من خلال اشكالا تعبيرية امتلكت معالجات ادائية واختزالات شكلية، ومن هنا يمكننا تفسير الجهود الكبيرة التي تتطلبها مراحل تحضير خامة الجبس وكيفية استخلاصها ودرجات الحرارة التي تستلزمها عمليات التحضير وصولا لتاسيس نوعا من التحالف بين خامة هذه التماثيل وتجلي الفكرة الكامنة بداخلها. لم تكن نظرة مبتدع هذه التماثيل الى الفن بوصفه تقليدا شكليا ومحاكاة لاشياء مرئية، بل هو وسيلة للكشف عن الحقائق، فتاسيس هيكلا من القصب يغلف بمادة جبسية واستخدام القار لتحديد العيون التي تذكرنا بالمنحوتات التعبدية شاخصة الابصار لحضارة فجر السلالات في العراق القديم، لهو بمثابة تفعيل للاشكال لتقدم تعبيرها بانساق تتعدى الخامة الاحادية في داخل التمثال الواحد، فالفكر الكامن لهذه التماثيل لم يعد يكتفي بادراك الامور الحسية للاشياء بل تعداها للكشف عن مضامين الظواهر، فنظام الشكل انتقل من صور مماثلة للاشكال الى دلالات تعبيرية، مما جعلها مشفرة بمدلولات جديدة، وان الهدف من انتاجها ليس تقليدا لما موجود في الطبيعة بل للكشف عن صيغ تدعم الفكر الانساني العقائدي في ذلك الزمان، فالاشكال في هذه التماثيل متحررة من الضغوط والقيود ومحملة بطاقة روحية تعبر عن جوهرها الداخلي، وقد ترسخت في ذهنية من انتج هذه الاعمال فكرة الموضوع ومن ثم اعاد انتاجها وفق نظام الشكل التعبيري باسلوب مختزل، فالاعمال التي تمثل هيئات بشرية كاملة انثوية كانت ام ذكورية لا تخضع لقوانين التشريح الجسماني بل جاءت بشكل تجريدي مبسط، اما التماثيل النصفية او التي يمكننا ان نطلق عليها بتماثيل (البورتريت) مزدوجة الراس الغرائبية التشكيل او الاحادية فقد تجسد تعبيرها بالعيون الشاخصة المنتبهة.

والمحددة باللون الاسود والانوف الدقيقة والرقاب الممشوقة، ولعل الاقنعة التي عثر عليها مع هذه التماثيل تدخل في نفس اطار الاستخدامات التي تم الاشارة اليها سابقا، ومن خلال ما تقدم نستنتج بان وحدة الاسلوب الفني في الاداء لهذه التماثيل قد تسامت فيها المدلولات العقائدية على قوة الاشكال الطبيعية والتشريحية متحولة من اشكالا مماثلة لما موجود في الطبيعة الى اشكالا معبرة عنها وهذا هو جوهر التعبيرية الفنية، اي ان هذه التماثيل اوجدت اشكالها الخاصة وشيدت تاريخها من رسوخها، وان الغموض والابهام الذي يكتنفها ضم بعدا سحريا وجماليا مضافا لعمرها التاريخي، فالاعمال الفنية التي تحيل الى اجوبة مباشرة والتي لا تحمل في ثناياها تاويلات مستترة او مدلولات ثاوية لايمكن ان نقارنها بالاعمال العميقة التي تحمل مسحة من الابهام.

قد تكشف الايام القادمة مزيدا من المفاجئات لهذا الموقع، متمنين لحفريات الجامعة الاردنية كلية الاثار والسياحة والتي تهم بالتنقيب حاليا في هذا الموقع كل التوفيق والنجاح.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :