-

كتابنا

تاريخ النشر - 20-10-2020 10:31 AM     عدد المشاهدات 408    | عدد التعليقات 0

شقـــــة جــــديــــدة

الهاشمية نيوز - ناصر الريماوي

منذ شهر، وأمام بسطة الدرج المشتركة لجيران الطابق الثاني، وأنا أصطدم بجارتي الهندية العجوز، وتحديدا أمام بوابة المصعد المزينة بالمرايا، تنبت لي ملفعة بزيها التقليدي من براثن الغيب، تبتسم باحترام فتسقط عن جبهتها تلك النقطة الحمراء وتتبخر على الفور.

أهرب نزولا عبر الدرج، بينما يطاردني صبرها المنتهي الصلاحية بلكنة عربية هجينة: ما بك، من أين أنت؟!

أكدت لها ذات مرة بأنني الساكن الجديد، وأن عليها أن تعتاد على تبخر جبهتها ووسمها النقطي الأحمر في حضوري، فأنا على عجلة من أمري، ولا أدري لماذا. لكنها لا تصغي.

بالأمس، ماتت.

سألني نجلها بشكل بديهي، عن رأيي بحرق جثتها

ففتحت عينيّ مندهشا، حتى ابتلعته الردهة من أمامي، كنت أراه وهو يغوص في أرضية الطابق السفلي دون اعتراض أو وجع.

هذا المساء، مات نجلها فجأة.. هو الآخر.

قالوا إن الصدفة وحدها من فعلت بهما هذا.

بواب البناية العابس أظلم وجهه، وشرع يكيل لي اللوم بلغة «الأوردو».. ويفتح نيرانه المحتدمة في وجهي، ظننت بأنه يمازحني أول الأمر، لكنه حين جذبني بقوة، إلى وسط الشارع، لم أحتمل ورحت أبكي رحيلهما المفاجىء بلوعة محيرة.

قبل قليل.. مات البواب أيضاً.

قالوا لي بأنه أمر عليّ أن أعتاده، فنحن في أول الخريف.

وبأن الكثيرين من سكان هذه البناية سوف يموتون قريبا.. هنا.

منذ شهر وأنا محجور، تداهمني فقط جدران شقتي الجديدة، وتسأل عني.

تصلني بعض الأصوات الغريبة من أسفل الباب الخارجي، الموصد تماما، لكنني لا أصغي لها.

فكرت بفتح الباب والخروج، مرات عديدة.

لكنني وفي اللحظة الأخيرة أرتجف وأعدل عن نيتي.

الآن فقط.. فقدت حاسة السمع.

والشم أيضا.

صار المناخ حاداً من حولي وبأريحية لا توصف، وصار لزاما أن أرى جارتي الهندية، ونجلها المتصابي، وبواب البناية العابس، بأبهى صورة لهم.

وكل الذين ماتوا في غيابي.

كنا جميعا نجلس على حافة الطريق السفلي، بفرح غامض، نرى أناساً لا يروننا ولا يلقون لوجودنا بالا

وكنت للمرة الأولى، ومنذ يومي الأول رغم فداحة نيتي، طيبا متفهما.. أساير الجميع، ولا أحدق في وجه أحد.

****

تصل إلى سمعي المشوش أصلا، أصوات غريبة لا مبرر لها. ترددها محير وموحش في فضاء الشقة رغم اتزان الصدى.

يد الباب الخارجي للشقة في ارتجافها بعض إيقاعات الهواء الثقيل، الرابض بين فسح الشقق الموصدة ومرآة المصعد المعطل.

السقف المستعار يرتج على صدى صوت جاري وهو يرطن بلغة «أسيوية» غير مفهومة، لعباراته وقع الشتائم والغضب، رغم أنه يضحك.

قيل لي بأن جاري، العربي الوحيد في الطابق الثاني، هو «سوري»، وله ذوقه الخاص في انتقاء مزهريات غريبة، يعلقها على باب بيته.

أنا عني لم ألتق به ولا لمرة واحدة لأعاتبه.

منذ حللت في شقتي الجديدة وهو يدير شقته عن باب بيتي المجاورة له، قالوا بأنه يستعيض عنا جميعا برحابة شرفته المطلة على بحر اللاذقية.

ابن المرأة الهندية العجوز، شاب في أواخر العشرين من عمره، على أقل تقدير.

يشبه بقامته الفارهة «أميتاب باتشان»، ملامح وجهه الصبيانية تتوارى خلف كمامته المشدودة بعناية إلى وجهه وأذنيه.

يستدير فجأة نحوي ويلقي بتحية هجينة، كلما التقينا، قبل أن يغيب في زحمة الشارع.

منذ أسابيع ووالدته تظن بأني وافد مؤقت من «بورتريكو»..

ولا أدري لماذا.

يعلق لسانها عند هذه الكلمة المستفزة.. «بورتريكو»، رغم نشافة ملامحي وإنا أرد عليها باستياء: من بلاد الله «الضيقة».. يا خالة.

البواب «الباكستاني» الذي يركن كرسيه المتهالك إلى يمين المدخل العام، يذكرني بارتداء الكمامة وأنا أعبر عائدا نحو بيتي، لكنه يتغاضى عن فعل ذلك عند خروجي للعمل.

بلغني استياء الرجل على محمل الجد.. كوني أظنه بوابا فقط.

إيقاعات الأصوات الغامضة في شقتي الجديدة تتوالى مع حلكة الليل وتهبط نحو المنامات في الغرف البعيدة، يتعذر وصفها بدقة، لاختلاطها بالعتمة وصرير الشارع المجاور.

منذ أربعين يوما وليلة وأنا أفسرها على وقع اللغات العديدة، ولهجاتها، بلا ضغينة.

وحدها، يد الباب الخارجي ما يؤرقني وهي ترتجف بوحشة ووضوح، وتناصبني العداء، بلغة مفهومة، رغم سلمية المكان.




وسوم: #شقـــــة


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أضـف تعلـيق

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة الهاشمية الإخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة الهاشمية الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :